مصارع
الرجال . .. . على مذابح الهوى والغرام !
! ( بقلم : د . وحيد الفخرانى )
----------------------------------------------------
غريبة هى
الحياة . . . وعجيبة تصريفات الأقدار . . تمضى سنوات وسنوات ، منذ مولدنا وحتى
الممات ، نروح ونجئ ، نقابل أشخاصاً وأناساً هنا وهناك ، ونظل نمضى فى طريق رسمته
لنا الأقدار ، ونحن نظن غفلة منا ، أنا من إخترناه ، وننسى أن للكون خالق له فى
خلقه شئون وإختيار ، منذ بدء الخلق وحتى يحين الأوان ، ويصير الكون كله إلى عدم
وفناء ، وينادى العلى القادر الباقى من فوق سمع سماوات : لمن الملك اليوم ؟ لله
الواحد القهار .
هكذا شاءت
الأقدار . . وعلى هذا النحو سارت الحياة مع ضاحى . . ذلك الرجل صاحب القلب الطيب ،
والطبع الهادئ والمشاعر الودودة . . الذى يبلغ من العمر خمسة وأربعون عاماً ، فقد
أمضى ضاحى سنوات عمره منذ تخرجه من الجامعة فى كلية الهندسة ، وشغله وظيفة معيد
فيها ، ثم حصوله على درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية ، وعودته مرة
أخرى إلى مصر للتدريس بجامعاتها ، ثم تدرجه فى المناصب ليشغل وظيفة رئيس قسم
الهندسة المدنية بالكلية . . وكان ضاحى قد تزوج من إحدى قريباته ، فور حصوله على الدكتوراة
وعودته إلى مصر ، وأنجب منها ولدين وبنت واحدة . . وإستمرت حياته هادئة ومستقرة ،
ولم يكن ينقصها شئ سوى الحب .
وذات صباح
.. . وبينما هو جالس فى مكتبه بالكلية ، يحتسى قهوة الصباح المعتادة ، إستعداداً
لإلقاء محاضرة على طلبة الدراسات العليا بالكلية ، دخلت عليه فتاة فىالثلاثين من
عمرها ، على درجة من الحسن والجمال . . لفت نظره للوهلة الأولى أن ملامحها ليست
ملامح فتاة مصرية ، وإنما تميل كل الميل ناحية ملامح نساء الشام ،العيون الواسعة
والجباه العريضة والقسمات المحددة الواضحة ، وكانت متوسطة الطول رشيقة الجسد أنيقة
الثياب ، تعلو وجهها مسحة من المكياج الهادئ . . ألقت عليه السلام والتحية ، وردها
إليها ثم إستأذنت للجلوس فأذن لها ، وبادرت بالحديث عن نفسها . . أخبرته بأن إسمها
حنان ، وأنها مهندسة متخرجة منذ ما يزيد على عشر سنوات ، وأنها سورية الجنسية من
أب سورى وأم مصرية ، وهى تعيش الآن فى مصر مع أمها فى إحدة ضواحى القاهرة ، عاصمة
المعز . . وبدوره سألها هو :عن سبب الزيارة ، فأخبرته أنها حاصلة على درجة
الماجستير فى هندسة البناء من جامعة دمشق ، وأنها تريده أن يشرف لها على رسالة
الدكتوراة ، التى تنوى التقدم بها إلى كلية الهندسة بجامعة القاهرة .
وعلى الفور
. . . وبدون أدنى تردد ، أبدى ضاحى إستعداده للإشراف على رسالتها المزمع تقديمها ،
وطلب منها إحضار بعض الأوراق والمستندات الخاصة بها ، وحدد لها موعداً لمقابلته فى
صباح اليوم التالى ، على أن يكون معها موضوع الرسالة لمطالعته . . إستأذنته حنان
فى الإنصراف ، ووقفت لتودعه ، وإمتدت يدها إليه لتصافحه فصافحها وإنصرفت ، وياليته
ما فعل .
إنها المرة
الأولى . . . منذ سنوات طويلة ، التى تلامس فيها يد ضاحى يد فتاة أخرى ، على هذا
القدر من الجمال الفتان ، منذ آخر مرة لامست يده يد محبوبته ، وقد مضى عليها أكثر
من إثنى عشر عاماً . . واليوم هاهى الأيام تدور دورتها المعهودة ، لتلامس يده يد
فتاة تنطق بالأنوثة الصارخة ، التى تكشف عنها رشاقة جسد وأناقة ملبس وروعة إبتسامة
.
لقد إهتزت
كل أوصال ضاحى هزة عنيفة ، لم تكن تخطر له على بال . . وبعد أن إنصرفت الفتاة ،
ذات الجمال والدلال ، جلس ضاحى وحده شارد الذهن حر الخيال ، يحدث نفسه وتحدثه ،
ويتساءل قائلاً : ماذا دهاك أيها الرجل العاقل الهادئ الرزين ؟ ماذا حدث لك ؟
وماذا فعلت بك تلك الفتاة ، التى ما إستغرق حديثها معك سوى عشر دقائق أو يزيد
قليلاً ؟ وما هذه الهزة العنيفة التى شعرت بها ، وقت أن إمتدت يدها لتصافح يدك ؟
ولم تشعر بأنك ما تركت يدها إلا بعد أن جذبتها هى ؟ تساؤلات وتساؤلات أخذت تدور من حوله وهو جالس
شارد الذهن ، ولم يقطع ذلك الشرود سوى صوت إحدى الطالبات ، تنبهه إلى حلول موعد
إلقاء المحاضرة .
إمتدت يده
لتجمع أوراقه من على سطح مكتبه ، بعد أن لملم ما تبعثر من أوصاله ، وتوجه متباطئاً
نحو قاعة المحاضرات ، كى يلقى محاضرته على طلبته ، ويا ليته ما فعل . . لقد كانت
أسوأ محاضرة ألقاها منذ سنوات ، ولم يستطع خلالها أن يتفاعل مع الحاضرين ، وأنهى
محاضرته قبل موعدها بنصف ساعة ، وعاد مهرولاً إلى مكتبه ، فحمل حقيبته وإتجه
مسرعاً نحو سيارته ، فاستقلها وعاد إلى منزله ، وهو فى حالة من الشرود والتوهان .
. توجه ضاحى على الفور إلى حجرة مكتبه ليغلقها على نفسه ، ويحاول جاهداً أن يسترجع
شريط حياته بأكمله ، التى إنقضت كلها ما بين الدراسة والبحث والجامعة ، والبيت
والزوجة والأولاد .
إنقضى
النهار ثقيلاً ..ثم تبعه ليل بطئ وطويل ، حتى بزغ فجر اليوم التالى وسطعت شمسه ،
كى تعلن عن مولد يوم جديد فى حياة ضاحى ، ولكنه لم يكن يوماً كأى يوم . . إنه
اليوم الذى سوف يلتقى فيه للمرة الثانية ، بهذه الفتاة التى قلبت بمجيئها حياته
رأساً على عقب ، إستقل سيارته وإنطلق مسرعاً نحو الجامعة ، حتى وصل إلى هناك فتوجه
على الفور إلى حيث مكتبه ، وكانت المفاجأة السارة فى إنتظاره . . إنها الحنان . .
إنها الحنان ، لقد حضرت مبكراً عن موعدها بنصف ساعة ، وإنتظرت مجيأه وها هو قد حضر
. . أحس ضاحى على الفور بسعادة غامرة تعم كل كيانه ، ما شعر بها منذ سنوات ، طلب
قهوته كالمعتاد ، وطلب لها كوباً من الشاى ، ودار بينهما حوار طويل إستغرق أكثر من
ساعة ، وكان حواراً دافئاً من الطرفين .
لقد بدا
واضحاً لحنان . . وضوح الشمس فى كبد السماء ، أن ضاحى قد إرتاح للحديث معها . .
وبدا جلياً لضاحى أن حنان لم تمانع فى قرب ما بينهما ، وبدون أن تطلب هى ، أعطاها
رقم هاتفه المحمول الخاص بالأصدقاء ،
وأعطته هى بدورها رقم هاتفها المحمول ، على وعد بينهما بالتواصل ، ونهضت حنان كى
تستأذن مودعة ، وإمتدت يد ضاحى هذه المرة كى يصافحها ، أعطته حنان يدها فصافحها
وأطال المصافحة للحد الذى أكد لحنان أنه يرغب فى القرب منها . . إبتسمت هى
إبتسامتها الجميلة المعهودة ، وغلبها حياء الأنثى فإستدارت وإنصرفت .
ولم تمضى
سوى ساعات قليلة وقد حل المساء ، وإتصل ضاحى بحنان كى يطمئن عليها فشكرته وتبادلا
الحديث لحظات ، وعلى مدار ثلاثة أيام متصلة ، توالت الإتصالات الهاتفية بينهما عدة
مرات صباح مساء ، حتى تلاقيا خارج أسوار الجامعة لقاءات خاصة ، وكانت بداية مصارحة
كل منهما للآخر بمكنونات صدره نحوه ، وأسعدت تلك المصارحة والمكاشفة كل من
الحبيبين .
ودارت
الأيام دورتها . . ومع مرور كل يوم كانت علاقة الحبيبين تزداد قوة ومتانة ، ويزداد
معها تعلق ضاحى بحنان ، لقد كانت كلماته لها تكشف دائماً عن حب دفين وغرام مشتعل ،
وكانت كلماتها له تنم عن إرتياح كبير وتعلق به .
وبعد مرور
عدة شهور على بداية تعارفهما . . وذات صباح ، إتصلت حنان بضاحى ، وأخبرته بأنها
تريد لقاءه فى ذات اليوم على وجه السرعة فى أمر هام . . لم يتردد هو فى تحديد موعد
للقاء بينهما فى عصر ذات اليوم ، وذهب ضاحى فى ذات موعد اللقاء وذات المكان الذى
إعتاد أن يلتقى فيه الحبيبان ، ليجلسا سوياً ويتبادلا المشاعر الرقيقة والأحلام .
. لم تمضى سوى لحظات حتى حضرت حنان كعادتها ، جميلة ورشيقة ومتأنقة ، ووقف لها
ضاحى فأجلسها حسبما إعتاد فشكرته وجلست ، ولم يدع ضاحى الدقائق تمر فى صمت وسكون ،
حتى بادرها على الفور بالسؤال :
سألها :
خيراً يا حنان . . ما الأمر العاجل الذى دعاكِ إلىطلب اللقاء على وجه السرعة ؟
قالت ( وهى
تحاول أن تطمئنه ) : لا تنزعج يا عزيزى . . الأمر بسيط ولكنه ضرورى وهام .
قال (
متلهفاً ) : إذن أخبرينى به يا حنان . . كى تهدأ نفسى ويستريح فؤادى .
قالت :
بالأمس . . إتصل بى شقيقى مروان من سورية ، وأخبرنى بأن والدى مريض مرضاً شديداً ،
ويريدنى أن أكون إلى جواره فى الفترة المقبلة .
قال (
متسائلاً ) وهل مرضه خطير إلى هذا الحد الذى يستلزم سفرك إلى هناك ؟
قالت : لا
. . ولكنه أصبح الآن رجلاً مسناً ، ويحتاج إلى من يرعاه ، وأنا وحدى من يمكنه
القيام بذلك ، لأننى إبنته الوحيدة .
قال (
منزعجاً ) : ومتى يجب أن تسافرين يا حنان ؟
قالت : بعد
غد . . لقد طلب منى أخى ضرورة السفر بسرعة إلى هناك .
قال (
مندهشاً ) : بعد غد ! ! إنه موعد قريب
جداً . كيف ذلك هكذا فجأة ؟
قالت (
مبررة ) : إن ظروف مرض والدى تحتم علىّ السفر بسرعة .
قال ( وقد
بدت عليه علامات القلق ) : ومتى سوف تعودين يا حنان ؟
قالت (
بصوت مرتعش ) : لا أعلم يا ضاحى . . لا أعلم .
قال ( وقد
خفق قلبه بشدة ) : كيف لا تعلمين ؟ هل هو سفر بلا عودة أم ماذا يا حنان ؟
قالت : لست
أدرى يا ضاحى . . إلى متى سوف أغيب .
قال (
متسائلاً ) : وأنا ماذا سوف أفعل بدونك ؟ ألم تفكرى فى ّ أبداً ؟
قالت ( وهى
تتألم ) : ومن أدراك أنى لم أفكر فيك ؟ ألسنا أحبة ؟ ألسنا أصدقاء ؟ إننى منذ أن
أخبرنى شقيقى بالأمس لم يتوقف عقلى عن التفكير فيك قط . . ولكن ما بيدى حيلة ،
والدى مريض ويحتاجنى إلى جواره ، ولا أستطيع أن أتركه وحده فى مرضه هذا ، إنك لا
تعرف كم هو عزيز وغالى على نفسى . . لقد فعل من أجلى ، مالم يفعله أحد فى هذا
العالم ، إنه أبى وصديقى وحبيبى ، وهو عندى أعز وأغلى الناس على الإطلاق .
قال ( وقد
بدت عليه علامات الغرق ) : وماذا عن والدتك ؟ ألا تستطيع هى السفر بدلاً منكِ ؟
قالت : أمى
لم تعد تقوى على مثل هذه المهام ، وسوف تظل هنا عند خالتى فى مدينة بنها .
قال (
وصوته يرتجف ) : وأنا يا حنان ؟ ماذا عنى ؟ وكيف أقوى على العيش بدونك ؟
قالت (
والدموع فى مآقيها ) : لست أدرى . . لست أدرى . . إننى أكاد أجن من إبتعادى عنك .
قال ( وهو
يذكرها ) : أنتِ تعرفين تماماً أنى أريدك ، وأريد الحياة إلى جوارك .
قالت : إن
كنت تريدنى حقاً تعالى معى إلى بلدى ، لنتزوج ونعيش هناك مع أبى وإخوتى .
قال : كبف
ذلك ؟ وكل حياتى هنا ، وعملى بالجامعة . . أهلى وأصدقائى ومن قبلهم أولادى .
قالت : أنا
لا أرغمك على شئ ، ولكن ظروف الحياة هى التى فرضت علينا الفراق ، وأنا أحاول أن
أجد لى ولك مخرجاً .
قال : وهل
هذا مخرج ؟ الحل المناسب أن تبقى معى هنا ، وسوف نتزوج ونعيش سوياً فى مصر
قالت :
وكيف أترك أبى هناك وحيداً و مريضاً ، لا يجد أحداً يرعاه . . ثم إن أهلى وأخوتى
هناك
قال : أنتِ
تخيريننى يا حنان بين أمرين كلاهما مر ، إما أن أترك كل حياتى هنا وأرحل معكِ ، أو
أتركك ترحلين وأفقدكِ إلى الأبد .
قالت ( وهى
ترجوه ) : قل لى بالله عليك . . ما الذى بيدى أن أفعله ؟ أنا لا أملك من أمرى
شيئاً .
قال ( وقد
إعتراه اليأس ) : وهل جئتِ اليوم . . كى تخبرينى بذلك ؟
قالت (
والدموع تتساقط من عينيه ) : لقد جئت كى أودعك . . وأؤكد لك أننى سوف أذكرك كل يوم
وليلة ، وكل صباح ومساء ، ولن أنساك أبداً ما حييت ، وأرجو منك ألا تنسانى أبداً .
نهضت حنان
واقفة كى تمضى . . وهو جالس أمامها لا يستطيع نطقاً ولا فعلاً . . إمتدت يدها إليه
كى تصافحه مصافحة الوداع ، فأمسك يدها بكلتا راحتيه ، وقبض عليها بشدة كمن يستغيث
طالباً العون ، حتى كادت أن تتألم من شدة قبضته . . وأخذ يردد راجياً : لا تتركينى
وحدى ، فأنا ما شعرت يوماً بطعم الحياة إلا معكِ . . نظرت إليه والدموع تنحدر على
وجنتيها ، وقالت : إن كنت تريدنى تعالى معى إلى هناك ، كى نعيش سوياً .
صمت ضاحى
ولم يتكلم . . وشرد عقله بعيداً لحظات قليلة . . وما أن إستعاد وعيه مرة أخرى ،
نظر حوله فلم يجدها ، لقد رحلت حنان ومضت إلى حال سبيلها ، وتركته وحيداً يعانى
ألم الفراق . . لم يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء . . فى تلك اللحظة بالذات . . أدرك
ضاحى أنه ما كان يجب عليه أن يترك قلبه ليتعلق بها ، إلى هذا الحد . . وما كان يجب
عليه أن يغامر بكل حياته ، من أجل حب إمرأة لا تملك من أمرها شيئاً . . لقد أدرك
ذلك ، ولكن بعد فوات الآوان ، وأحس بألم يعم كل جنبات صدره ، من حسرة ولوعة الفراق
.
ترُى . . .
أكان حقاً على صواب . . حين أحب الحب وأراد أن يحيا الحياة ؟
أم أنه كان
واحداً ممن صرعتهم الأقدار . . على مذابح الهوى والغرام ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟
وإلى مقال آخر إن شاء
الله .