الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

عندما تتنصل المرأة . . . من مشاعرها ! !


عندما تتنصل المرأة . . .  من مشاعرها ! !
---------------------------------------- 

كان أحمد شاباً فى مقتبل عمره ، بلغ من العمرثلاثين عاماً ، إلتحق بإحدى المدارس الإعدادية بمحافظته ، للعمل مدرساً للغة العربية ، كان شاباً مَرحاً من أسرة متوسطة الحال ، وكان معروفاً بين أصدقائه وزملائه بالإستقامة وحسن الخلق . . . ذهب أحمد مبكراً إلى عمله بالمدرسه ، فى أول يوم للعام الدراسى الجديد ، دخل إلى حجرة اللغة العربية بالمدرسة ، فلم يجد بها أحداً ، جلس ليحتسى كوباً من الشاى حتى يحضر باقى زملائه . . . وبينما هو جالس ، دخلت عليه فتاة فى منتصف العشرينات من عمرها ، تبدو عليها أمارات الأناقة والهدوء ، ألقت عليه بالتحية وسألته عن مكتب مدير المدرسة ، فبادرها أحمد بالسؤال عن سبب سؤالها ، فأخبرتها بأنها المدرسة الجديدة للغة العربية بالمدرسه ، وأن إسمها هالة ، رحب بها أحمد وعّرفها بنفسه ، ثم إصطحبها إلى مكتب مدير المدرسة ، ألقيا عليه بالتحية ، وأخبره أحمد بأمر هالة ، فرحب مدير المدرسة بها ، وتسلم منها خطاب تعيينها بالمدرسة ، وتمنى لها التوفيق فى عملها ، ثم إنصرف أحمد وهالة إلى حيث مكانهما فى حجرة اللغة العربية . . .

جلس أحمد وهالة سوياً فى الحجرة وحدهما – بعد أن قدم لها واجب الضيافة -  لمدة ساعة كاملة ، يتبادلان أطراف الحديث حول العمل بالمدرسة ، وكيفية توزيع الحصص على المدرسين الجدد ، ومن خلال الحديث عرف كلاهما عن الآخر أموراً كثيرة ، وكانت هالة تتحدث بصوت هادئ ، وتعلو وجهها علامات التعقل والتدبر . . . كان أحمد بالنسبة إلى هالة ، هو أول شخص تتعامل معه فى بداية عملها بالمدرسة ، وكعادة الشخص الأول فى كل شئ ، يظل هو الأقرب غالباً ، لم يتركها أحمد تقريباً فى اليوم الأول للدراسة ، بل ظل بجانبها ، لا سيما بعد أن علمت بأنها المدرسة الوحيدة فى قسم اللغة العربية بالمدرسة ، وبقية المدرسين من الرجال . . إنقضى اليوم
الدراسى الأول ، ودع أحمد هالة ، على أمل اللقاء بها فى صباح الغد ، وودعته هالة بإبتسامة هادئة جميلة ، وشكرته على وقوفه بجانبها فى يومها الأول بالمدرسة ، وإنصرف كل منهما إلى منزله ، ولكن بعد أن وضع كلاهما أول لبنة فى بناء علاقتهما الوطيدة .

وفى صباح اليوم التالى . . أتى أحمد إلى المدرسة مبكراً كعادته ، وجلس فى حجرة اللغة العربية ، ينتظر قدوم هالة ، لم تمض دقائق وأهلت هالة بوجهها الجميل ، دخلت الحجرة فوجدت أحمد بإنتظارها ، أراحها ذلك كثيراً ، فرحت وإطمأنت وبدت عليها علامات السعادة والسرور ، ألقت عليه التحية ، وجلست أمامه مباشرة ، وبينهما منضدة كبيرة ، رحب أحمد بها ترحيباً خاصاً جداً . . . هكذا سريعاً بادر كلاهما بإظهار مشاعره تجاه الآخر ، أظهرت هالة إرتياحها الشديد لأحمد ، وكانت كل عباراتها إليه توحى بذلك ، لأن حياء الفتاة يمنعها من التصريح بمكنونات صدرها ، أما أحمد فكان صريحاً واضحاً فى كلماته إليها ، والتى قابلتها هى بترحاب شديد . .
مضت الأيام تلو الأيام ، ومع كل يوم يزداد إقتراب أحمد من هالة ، وتتوطد علاقتهما ، تبادلا أرقام الهواتف المحمولة ، كى يُحادث كلاهما الآخر فى غير أوقات العمل بالمدرسة .

وذات يوم من الأيام – بعد مرور شهرين كاملين على بَدء علاقتهما – كانا يجلسان مع بعضهما بحجرة التدريس فى فترة الإستراحة ، وأخبرته هالة أنها فرغت من حصص اليوم ، وأنها سوف تنصرف إلى منزلها ، فودعها أحمد ، وأخبرها بأنه سوف يتصل بها مساءً ليطمئن عليها ، إنصرفت هالة ، وبعد أن خرجت من الحجرة ، تلاحظ لأحمد وجود ورقة من الحجم الكبير ( عريضة ) تحت المنضدة حيث كانت تجلس هى ، فإمتدت يده ، وإلتقطت الورقة ليعرف ما بها ، وجدها مكتوبة بخط يد هالة ، كتبت فيها خواطرها ، وتحدثت عن شخص عرفته منذ شهرين فقط مع بداية عملها بالمدرسة ، وتصف مشاعرها تجاه هذا الشخص ، وكيف أنها مالت إليه بقلبها وعقلها وكل كيانها ، كتبت هالة كثيراً عن حبها لهذا الشخص فى الورقة ، كلماتها كانت عن أحمد فى منتهى الوضوح والصراحة ، صحيح أنها لم تذكر إسمه فى الورقة ، ولكن تلك هى عادة الفتيات ، يمنعهن حياؤهن من ذلك . . . إزداد تعلق أحمد بهالة ، بعد قراءة خواطرها عنه ، وفضل ألا يُخبرها بأمر الورقة ، كى لا تستردها ، ويظل مُحتفظاً بها .

مرت الأيام سريعاً . . وإنتصف العام الدراسى ، وحان موعد أجازة منتصف العام ، لن يرى كلاهما الآخر طوال أسبوعين متتاليين ، ولكن لا بأس ، فالهواتف كفيلة بحل هذه المشكلة ، ظل أحمد وهالة على إتصال مستمر طوال فترة الأجازة ، إلا أنه فى اليومين الأخيرين ، حدث أمر لم يكن يتوقعه أحمد ، إنه يتصل على هالة ، ولكنها لا ترد ، يكرر الإتصال دون جدوى ، ونفس الشئ حدث فى اليوم الأخير للأجازة ، قلق أحمد على هالة كثيراً ، ولكنه طمأن نفسه بلقائهما صباح غد ، بحجرة التدريس بالمدرسة ليعلم منها ماذا حدث . .

فى صباح اليوم التالى ، ذهب أحمد مبكراً ، وجلس فى إنتظار هالة بحجرة التدريس ، تأخرت هالة نصف ساعة حتى حضرت ، كان يبدو عليها أن شيئاً ما قد حدث ، كانت فاترة هذه المرة ، على الرغم من غيابه الطويل عنها ، ألقت عليه التحية بهدوء وجلست أمامه ، إنها لم تنظر إليه هذة المرة ، كانت عيناها تبتعدان عن النظر إلى عينيه ، مرت دقائق ، ساد الصمت خلالها ، إلى أن قطع أحمد صمتها ، وبادرها بالسؤال  ،
قائلاً : ماذا بك يا هالة ؟ أراكِ مختلفة على غير عادتكِ معى ؟ ماذا حدث ؟
قالت وهى مترددة : لا شئ . . . لا شئ . .
قال أحمد : لا . . هناك شئ ، إنى أعرفكِ من مجرد النظر فى عينيكِ ، أقرأ فيهما كل ما أريد .
قالت ( بصوت هادئ ) : أول أمس تقدم لى أحد أقاربى للزواج بى ، إنه إبن خالتى ، تربينا سوياً ونحن صغار ، وسافر إلى إيطاليا منذ خمس سنوات للعمل بها ، إستقرت أحواله هناك ، وهو الآن فى أجازة . وعزم على الزواج هذه المرة ، ولم يجد أمامه أفضل منى .
سألها أحمد : وهل كان بينكما شئ قبل سفره ؟
قالت ( بعد صمت لثوانى ) : لا . . لم يكن بيننا أية علاقة عاطفية .
قال أحمد ( متعجباً ) : إذن ما هى المشكلة ؟ ليست هناك مشكلة ، إلا إذا كنتِ تخفين عنى شيئاً .
قالت على الفور : لا . . لا أخفى شيئاً ، ولكن أبى وأمى يريدانه ، ويفضلانه لى ! !
قال أحمد : وأنتِ يا هالة ؟ ألا تفضليننى ؟
ترددت قليلاً ، ثم قالت : أنت ماذا ؟
قال أحمد : ألسنا يُحب كلانا الآخر ؟ ويريد كلانا الآخر ؟ ألستِ تحبيننى يا هالة ؟
قالت بكل هدوء : نحن أصدقاء وزملاء عمل فى المدرسة ، وهذا كل شئ بيننا ! !
قال أحمد : لا . . ليس هذا كل شئ ، أنا أحبك وأريدك ، وأنتِ تحبيننى يا هالة .
قاطعته قائلة : لا يا أحمد . . أنا لم أقل لك أننى أحبك قط ّ لم ينطق بها لسانى قط  .
قال أحمد : ولكنكِ كتبتها لى بخط يدك فى ورقة خواطرك ( وأخبرها بأمر الورقة ) .
قالت : و هل عثرت عليها ؟ لماذا لم تخبرنى وقتها ؟ لقد بحثت عنها كثيراً ، ولم أجدها .
قال أحمد : لأننى فضلت الإحتفاظ بها لنفسى ، فهى لى ، وأنتِ كتبتها من أجلى .
قالت : ومن أدراك أننى كتبتها لك ، ومن أجلك ، إن ما بها لم يكن يخصك !
قال أحمد ( مستنكراً ) : كلها تخصنى ، كلها لى ، كلها من أجلى ، كلماتك فيها ، وصفك لى ، نفس توقيت تعارفنا ، صحيح أنتِ لم تذكرى إسمى فيها ، ولكن كل ما فيها عنى ويخصنى !
قالت ( بكل برود ) : لا . . ليس فيها شئ يخصك ، أنا لم أكن أقصدك بالمرة ، كنت أقصد شخصاً آخر سواك !
كاد أحمد أن يُجَن ، وقال لها : وهل يوجد سواى من عرفته بالمدرسة ، وتخاطبتِ معه وجلست إليه ؟ إنكِ لا تتحدثين مع أحد سواى ، وليس لكِ علاقة بأى شخص فى المدرسة !
قالت : وما أدراك ما بداخلى ؟ إنك واهم ! أنا لم أصرح لك بشئ ، ولم أذكر إسمك بالورقة هذه !
قال أحمد : نعم . . ولكنكِ قلتِ كل شئ بيننا ، إلا إسمى !
قالت ( وكأنها أمسكت مبرراً ) : إذن . . ما دمت لم أذكر إسمك ، ولم أصارحك بحبى لك ، فلا ذنب لى فيما توهمت وإعتقدت ! الذنب ذنبك ، والوهم وهمك ، وأنت وشأنك ! !
قال أحمد ( متسائلاً ) : وماذا بعد يا هالة ؟ ياحبيبتى ؟ يا قرة عينى ؟ إنى أحبك ، وأريدك لى .
قالت ( وكأنه تذبحه ) : لا شئ . . ليس بيننا شئ ! سوف أقبل الإرتباط بإبن خالتى !
قال أحمد ( متوسلاً ) : وماذا عنى يا هالة ؟ ماذا أفعل بنفسى ؟ وبحبى لكِ ؟
قالت : أكمل مشوار حياتك ، وكأنك لم تقابلنى قط ، وسوف يوفقك الله مع أخرى سواى ! أنا لست لك ، ولم أكن لك فى يوم من الأيام ، ولم أعدك بشئ ، أنت الذى أوهمت نفسك أننى أحبك ، وأغرقت نفسك فى الوهم شهور ، شيدت لنفسك قصراً فى الهواء ومَنيت نفسك بأنك سوف تسكنه ، ولم تسأل نفسك ذات يوم : هل ستدعنى صاحبة القصر أن أسكن فيه ؟ من أدراك أننى كنت سأدعك تملك قلبى ، أوتسكن قصرى ، إن مثلى ليس له فى الحب ، ولا يؤمن به ، إننى سأتزوج مثل كل الفتيات ، جسدى لزوجى ، أما قلبى ، فهو لى لن يملكه أحد ، لا أنت ولا سواك

هنا . . أدرك أحمد ، أنه كان كمن يبنى لنفسه قصراً ويشيده فى الهواء ، فتهب عليه الرياح ، وتبدد معالمه ، أو كمن يبنى بيتاً على الشاطئ من الرمال ، فتجئ الأمواج وتهدمه . . لقد كان واهماً متوهماً حين ظن أنها تحبه ، أو أن كلماتها فى تلك الورقة اللعينة كانت تخصه ، صحيح أنها تخصه ، ولكنها أنكرت أنها تخصه . . تباً لها ولقلمها الذى خطت به كلماتها ، وتباً ليدها التى أمسكت بالقلم الذى خطت به كلماتها ، وتباً لها وليدها ولقلمها ولكلماتها ، تباً لهم جميعاً .

ولكنه . . عاد ليفكر . . كيف توهم؟ ؟ ؟ وكل كلماتها له وعنه ، كانت تؤكد له صدق إحساسه . . أهن النساء على تلك الدرجة من الخداع ؟ أم أن حظه التعس ألقى به فى طريق فتاة ، تعرف تماماً كيف تتنصل من مشاعرها فى الوقت المناسب ؟
ظل السؤال حائراً على شفتيه ، ولا يجد له إجابة . . ويبدو أنه من ذلك النوع من الأسئلة التى ليس لها إجابة . . فتلكم هى طبيعة أغلب النساء . . تهوى دائماً كلمات الشك والريبة ( يبدو – ربما – يُمكن – قد أستطيع ) . . كى تحتفظ بكل الأبواب مفتوحة ، وكل السُبل مُيسرة . . وبذلك يُمكنها الدخول والخروج وقتما تشاء ، وكيفما تشاء ، وأينما تشاء . .
تباً . . . ثم تباً . . . ثم تباً . . . لها ولأمثالها .                   وإلى مقال آخر إن شاء الله .












الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

رَحل ساكن القصر . . . وبكت عليه السماء ! !


رَحل ساكن القصر . . . وبكت عليه السماء ! !
-------------------------------------------- 
وظل ساكن القصر فى القصر وحيداً ، تمر الأيام والليالى ، وفى كل يوم يُمنى نفسه بأنها سوف تجئ إليه ، ويمر اليوم تلو اليوم وما تجئ إليه ، إنها أقسمت بألا تدعه يسكن القصر ، سمعتها كل الدنيا وهى تُقسم ، إلا هو لم يسمعها قط ، وما أراد أن يصدق العصفور حين أخبره بأنها أقسمت بألا تدعه يمكث فى قلبها أو يسكن قصرها ، ما صدق إلا رسالتها التى كتبتها إليه ، وقالت له : أنها تحبه ، وتتمنى قربه ، وتريد له أن يد خل إلى قلبها ، ويسكن قصرها ، ولم يكن يدرى ما وراء الرسالة ، وها هو يسكن القصر ، ويمكث بداخله ، ينتظر مجيأها كل يوم . . .  إعتاد كل صباح أن يقف خلف النافذة حتى مغيب الشمس ، ينظر إلى بوابة القصر ، فلعلها تميل إليه ، أو يرق قلبها لحاله ، فتأتى لتعيش بجانبه ، تؤنس وحدته ، وتُريح قلبه وعقله ، وتحيا معه فى ظلال الحب . . . مرت عشرة أيام ، ولم يتبد ل أو يتغير الحال ، فى كل يوم كان ساكن القصر يُمسك برسالة حبيبته ، يقرأها عشرات المرات ، كان يقرأها بصوت عالى ليُسمِع كل ما فى القصر، نوافذها ، حوائطها ، فرشها ، سرائرها ، صورها ، كل ما يخصها ، فيشهدوا جميعاًعلى أنه ما جاء إلى هنا إلا لأنها تحبه ويحبها ، ربما منعتها أشياء من المجئ إليه ، ولكنها لم تنسه أبداً ، ظل يردد كلماتها إليه كل صباح ومساء ، مرات ومرات ومرات ، حتى حفظتها كل جنبات القصر .

ولكن . . . بدأ الشعور بالوحدة يتسرب إلى نفسه ، إنه يعيش وحيداً فى قصر فسيح ،لا يحدثه أحد ، ولا يرى أحد ، منذ أن أوصد عليه باب القصر ، وأغلق نوافذه ،وأسدل ستائره ، حتى البستان ما عاد يخرج إليه ، وما عاد يمرح بين الورود والزهور ، يداعبها وتداعبه ، وما عادت تتمايل فوق رأسه الفروع والأغصان ، ويجوب حوله النسيم مُحملاً بالعطر والريحان . . . أغلق كل النوافذ ، وأسدل كل الستائر ، وهجر كل الحجرات ، وإفترش الأرض فى باحة القصر ، ينتظر مجيأها ، ليفتح النوافذ من جديد ، ويُزيح الستائر من جديد ، ويخرج إلى بستان القصر ، وهى معه ، يداعبا الورود والزهور ، ويسمعا زقزقة العصافير وشدو الطيور ، و حتى الآن لم تجئ . .

إنقضت عشرة أيام أخرى ، وبدأ اليأس ينال من همته وعزيمته ، وكلما مرت الأيام ، وتوالت الليالى ، تمكن منه اليأس أكثر وأكثر ، ما عاد يُحدِ ث نفسه بمجيئها ، وما عاد يُمنى نفسه بقدومها ، ولا يستطيع أن يغادر القصر ، كيف يغادره ؟ وهو ما أتى إليه إلا ليحيا بجوارها ، فى قصرها ، لم يعد له مكان فى هذا العالم يأويه ، ضاقت به الد نيا بأسرها ، إلا هنا . . ، هنا حبه ، هنا قلبه ، هنا عقله ، هنا حُلمه ، هنا أمله ،هنا وجوده وكل كيانه . . لقد صار جزءً من هذا القصر ، وصار القصر جزءً منه ، عَشق العيش فيه ، فى إنتظار حبيبته ، معشوقته ، حياته ودنياه . . كان يكفيه أن القصر قصرها ، وأنه يسكن فيه ، وهو بذلك فى قربها ، ولم يكن يدرى ما تخبئه له الأيام .

ومرت عشرة أيام ثالثة . . وتأكد له أنها لن تأتى إليه ، وتمكن منه الأم والحزن أكثر وأكثر ، وفقد الأمل فى مجيئها . . ما عاد يشعر بنبض الحياة ، وما عاد الدم يجرى فى عروقه ، تمكن منه اليأس وهزمه ، أضعفه وأوهنه ، نال منه وأوشك أن يقضى عليه ، إنها علامات الإنهياروالسقوط  ، إنها أمارات الهلاك والفناء . . هنا فقط تذكر قول العصفور له :  " إنك تسعى إلى الهلاك ، ولن تدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان " ، وها هو الأوان قد آن ، وما عادت تقوى على حمله قدماه ، فوقع فى باحة القصر ، وهو ممسك برسالتها ، ويداه ترتعشان ، وأخذ يقرأها للمرة الألف ، ويردد كلماتها بصوت ضعيف ويقول لنفسه : لقد قالت أنها تحبنى ، وأنها لا تقوى على فراقى ، وأدخلتنى قلبها ، وتركتنى أسكن قصرها ، فلماذا تركتنى وحيداً هكذا ؟ إنى أحبها  . . إنى أحبها . . إنى أحبها . . وظل يرددها ، حتى غلبه النعاس ، وراح فى سبات عميق ، والرسالة فى يده .

وفى صباح اليوم التالى . . . اليوم الحادى والثلاثين منذ سكن القصر وحيداً ، كانت الطيور والعصافير تحلق بالقرب من القصر ، تذكر العصفور الذى كان قد حادثه من قبل ، أنه لم يأت ناحية القصر منذ حد يثهما ، عَنّ للعصفور أن يلقى نظرة عليه ، قبل أن يهاجر مع جماعة الطيور ، فها هو الصيف قد أوشك على الإنتهاء ، وإقترب موعد هجرة الطيور ، وربما لا يتمكن العصفور من رؤياه ، إلا بعد شهور ، فمال العصفور بجناحيه ناحية القصر ، لعله يجده فيلقى عليه تحية الوداع على أمل اللقاء ، إقترب العصفور من القصر أكثر وأكثر ، وجد النوافذ مُغلقة ، والستائر مُسدلة ، والقصر مُظلم ، ولا يمكنه الرؤية ، إنتابه شعور خفى بأن ساكن القصر فى داخله ، وأنه لم يغادره ، إشتم العصفور رائحته تحيط بالقصر ، تأكد للعصفورأنه بداخله ، فطار العصفور وأعتلى قبة القصر ، ونظر من أعلى فتحة القبة ، فوجد ساكن القصر مُلقى على الأرض فى باحة القصر ، أقلقه الأمر ، فإندفع بسرعة إلى داخل القصر ، حيث يرقد ساكنه ، مُمداً على ظهره ، ومُمسكاً رسالتها بيده على صدره ، ومُغمضاً عينيه ، ظنه العصفور نائما ً ، فأراد أن يوقظه كى يودعه قبل الرحيل ، فأخذ يزقزق بجوار أذنيه لعله يستيقظ ، فلم تنتبه عيناه ، ظل العصفور يزقزق ويزقزق ، وما إستيقظ ساكن القصر ، قلق العصفور لعدم تنبهه ، فوضع رأسه الصغير على صدره ، وأصابته الصدمة ، ياللمصيبة . . إنه لا يتنفس ، نقره العصفور فى يده بقوة ، ماتحركت يداه . . . حينئذ . . أيقن العصفور أن ساكن القصر قد مات ، إنتفض من الهول ، وإنطلق مسرعاً يتخبط داخل القصر ، يريد الخروج من القصر، إصطدمت جناحيه بحافة القبة وجُرحت ، ولكنه لا يأبه ، خرج من قبة القصر ، وأخذ يحلق فوق القصر وهو يصرخ ويصيح بأعلى صوته ، مردداً : لقد مات ساكن القصر . . لقد مات ساكن القصر . . لقد مات ساكن القصر ، ملأ الدنيا صراخاً وعويلاً ونواحاً ، سمعت بصراخه الورود والزهور والفروع والأغصان فى بستان القصر ، وأدركت أن ساكن القصر قد مات ، فأخذت تميل إلى الخلف وإلى الأمام ، وكأنها تنوح وتبكى عليه ، وصل صراخ العصفور إلى كل بقاع الأرض ، سمعته الطيور كلها ، فهرولت مسرعة إليه ، تستبين سبب صراخه وعويله ونواحه ، أخبرهم العصفور بأن عزيزهم ساكن القصر قد مات ، إنطلقت كل الطيور إلى داخل القصر ، فوجدت ساكنه ملقى على الأرض فى باحة القصر ، وقد فارقته الحياة ، وقفوا حوله بالآلاف ينظرون إليه ، وكأنهم يلقون عليه نظرة الوداع الأخيرة ، وبدأت الطيور تتوافد من كل بقاع الأرض ، لتلقى نظرة الوداع عليه . . . وبينما تتوافد الطيور على القصر ، شاهدها أحد الحراس القدامى للقصر ، هاله ما رأى من بعيد ، هرول مسرعاً ناحية القصر ، فوجد الطيور تحلق فوق القصر ، وهى تبكى وتنوح ، هرول إلى باب القصر وفتحه ، فرأى ساكن القصر ميتاً ، ومن حوله الطيور تنظر إليه ، وهى واجمة وحزينة . . إنطلق الحارس فأحضر بقية حراس القصر ، بعد أن أخبرهم بما رآه وسمعه ، جاءوا جميعاً كي يلقوا نظرة الوداع عليه  ، ودخلوا القصر ليحملوه على أعناقهم ويذهبوا به إلى مثواه الأخير . .

وفجأة . . إشتد ت الريح وزمجرت ، وهبت عاصفة لم يكن موعدها قط ، وفى دقائق تجمعت السحب فوق القصر ، وحجبت أشعة الشمس ، تعجب الحراس مما حدث ، حمله الحراس على أعناقهم ليخرجوا به من باحة القصر ، وبمجرد أن داست أقدامهم عتبة القصر ، أمطرت السماء بشدة فى غيرموعدها ، إنها ليست أمطاراً ، ولكنها دموع السماء تزرفها عليه ، حزناً وألماً لفراق صاحب قلب أبيض نقى ، طيب صالح تقى . . أبرق الرعد لحظه خروجه من القصر ، وكأنه طلقات المدفعية تحيى فقيد الإنسانية ، مر به الحراس فى البستان ، وقفت له الورود والزهور واجمة وصامتة ، وسكنت الفروع والأغصان لا تتحرك . . خرج به الحراس من بوابة القصر ، وهم يسيرون بخطوات جنائزية ، تمطرهم السماء بدموعها ، ومن خلفهم حلقت الطيور فى مئات الصفوف ، يتقدمهم ذلك العصفور الوحيد الذى إقترب منه ، وتحدث إليه ، وعرف حاله ، وأشفق عليه ، كان هذا العصفور أكثر الطيور حُزناً ، وهو يتقدم الصفوف وينوح ، ويردد بأعلى صوته : يا ليته قد سمع نصيحتى إليه ! ، لقد أخبرته بأنها أقسمت بألا تدعه يسكن قصرها مهما كان ، وأنها سوف تدمره إذا إقتضى الحال ، وأنها شقية لا تبغى الحياة ، ولن يناله منها إلا العذاب ، ونصحته بأن يترك القصر ويرحل ، إنه قصرها ، فليدعها تهدمه فوق رأسها ، إنها تريده خَرباً ومظلماً ، لم يستمع لكلماتى ، خدع نفسه برسالتها ، ياليته قد سمع ، وياليته ما خدع ! ! 
إنها أقسمت ألا تدعه يسكن القصر ، وأقسمت أن تخرجه منه ، وها هى أخرجته ، بعد أن قتلته حباً لها ، وحزناً لفراقها ، قتلته الوحدة ، وقتله عناده فى حبها ، وما كانت تستحق أن يضحى بحياته من أجلها . . وظل العصفور ينوح وينوح طوال الطريق ، لقد كان مشهداً جنائزياً مهيباً . . .لم تشهده كل بقاع الأرض من قبل . . ولن تشهده من بعد ! ! 

سمعت صاحبة القصر صوت الرعد والبرق ، وتعجبت لهطول الأمطار فى فصل الصيف ، فأسرعت إلى النافذة ، تستطلع الأمر ، فأبصرت مشهداً لم تبصره من قبل ، ها هم حراس قصرها قد عادوا ، ولكنهم يحملون ساكن القصر على أعناقهم ، والطيور من خلفهم تبكى وتنوح . . تُرى ماذا حدث ؟ وماذا وقع ؟ ترامى إلى مسامعها صوت أنين خافت ، نظرت خلفها ، ووقع بصرها على قلمها فوجدته يبكى هو الآخر . . فأمسكت به فى يدها ، وقالت :
سألته : ما الذى يُبكيك أيها القلم ؟ أجبنى ؟ وما الذى أراه خارج القصر ؟
رد القلم ( بصوت حزين ) : لقد مات اليوم ساكن القصر . . دخلوا عليه القصر وجدوه ميتاً .
سألت : ومن أخبرك بذلك ؟
قال القلم : ألم أقل لكِ سابقاً ، أن قلمه صديقى ، لقد أخبرنى فجر اليوم أنه مات ، وقبل أن يعلموا ، لقد مات وهو مُمسك برسالتك بيديه وبين أحضانه .

لم تتمالك نفسها من هول المفاجأة ، وأجهشت بالبكاء بصوت عالى ، وأطلقت صرخة مدوية  ، حتى كادت صرختها أن تهتز لها الأرجاء ، فتعجب القلم لصراخها وبكائها هكذا .
وسألها : لماذا بكاؤكِ الآن ؟ أما كنتِ تريدينه أن يرحل من القصر ؟ لقد رحل عنكِ وترك لك الدنيا بأسرها ، لقد قال لى قلمه انه مات وحيداً فى قصرك ، حزيناً على فراقك ، لقد قتلته .
قالت ( وهى تصرخ فيه ) : أسكت . . لا تقل إنى قتلته . . أنت لا تعرف شيئاً ، أنت لا تعرف كم أحبه ، وكم كنت أهوى القرب منه ، ولكنى ما أردته أن يمتلكنى قط ، حياتى أبداً لن يمتلكها أحد .
قال القلم ( ساخراً ) : كم أنتِ عنيدة ومتمردة ، سيطر عليك عنادك ، وغلبتكِ أنانيتك ، حرمته منك ِ ، وحرمت نفسك من العيش مع من يهواكِ ، هو أراد لكِ الحياة ، وأنتِ لم تردى له الحياة ، هذا هو الفرق بينكما ، كنتِ بالنسبة له حبه ، وقلبه وعقله وروح فؤاده ، أما هو فلم يكن لكِ شيئاً .
قالت : ولكننى لم أقتله ، ولم أقضى عليه . . إننى حزينة لفراقه ! !
قال القلم ( مستنكراً ) : لا . . لقد قتلته حين حرمته من أن يعيش الحب معكى فى القصر ، وأقسمتِ ألا تدعيه يسكن القصر ، تباً لكِ ، وتباً لهذا القصر . . وها هو قد ترك لكِ قصرك ، وترك لكِ الدنيا بأسرها ، ذهب إلى حيث يستريح ، لقد أتعبه حبكِ ، وآلمه وأحزنه كثيراً ! !

وعندئذ . . إرتعشت يداها وإهتز القلم ، ووقع من يدها على الأرض ، وسمعته يقول : لقد أقسمتِ ألا تدعيه يسكن قصرك مرتاحاً حتى مات ، وأنا لن أدعك تخطى بى كلمة حتى تموتين ، ما عُدت أصلح لكِ قلماً بعد سنين ، إبحثى عن غيرى ، فلن أدعكِ تكتبين بى بعد اليوم ! !
مرة أخرى . . . أجهشت صاحبة القصر فى البكاء ، لقد أدمى قلبها فراق حبيبها ، وأحزنها حديث قلمها . . أيقنت أنها ما كان يجب ألا تذهب إليه . . وما كان يجب أن تحرمه منها وان تحرم نفسها من حبه . . وما كان يجب أن تُقسم ألا تدعه يسكن قصرها . . وما كان يجب أن تتركه يعانى وحيداً حتى الموت .
واليوم . . ها هو قد ترك لها القصر ورحل . . وأحزن رحيله كل الدنيا . . وبكت لرحيله كل المخلوقات . .  حتى السماء بكت عليه وأمطرت فى غير موعدها . . . .
                                                                           وإلى مقال آخر إن شاء الله .







الاثنين، 29 أكتوبر 2012

و عاش فى القصر . . . . . . وحيداً ! !


و عاش فى القصر . . . . . . وحيد اً  ! !
--------------------------------------
غافلها . . ودخل إلى قلبها على حين غِرة . . مَرق إلى القصر بدون أن تدرى ، وفرح لمجيئه حراس القصر فتركوه ورحلوا , فرحوا بأن القصر – أخيراً – قد أصبح فيه سيده ، وما عادوا يشعرون بأن لصاحبة القصر إليهم حاجة . . دخل إلى بستان القصر ، ورحبت به كل الورود والزهور والرياحين ،وشدت له الطيور ، وزقزقت له العصافير . . سكن القصر ولم يكن يدرك أن لصاحبته رأى آخر ، إنها أقسمت ألا تدعه يسكن قلبها وقصرها بعد اليوم ، بعد أن خانها الجميع من حولها وغدروا بها ، حتى حراسها تركوها ورحلوا ، وحتى قلمها رفيق السنين ، فرح لما علم أنها ما مزقت الرسالة ، وأنها ما ألقت بها فى صندوق القمامة ، وإنما وضعتها بيدها الجميلة فى صندوق ا لبريد ،  ليتسلمها ساكن القصر ويقرأ ما بها ، ويعلم أنها ما أحبت قط سواه ، وما مالت نفسها إلا إلى هواه ، غلبتها مشاعرها نحوه ، وهزمها حبها إليه ، وغاب عنها عقلها لحظة أن إمتدت يدها لتضع رسالتها فى صندوق البريد ، حتى عيناها ، أغمضت الجفون ، وما أبصرت الصندوق .

ولكنها الآن أفاقت لنفسها ، وذهبت عنها الغفلة ، وإستردت وعيها ، وأقسمت بأنها مهما كلفها الأمر ، سوف تخرجه من القصر ، ولن تدعه يستولى على قلبها وقصرها . . إنها ليست فى حاجة إليه ، إنها هكذا مرتاحة البال ، تنام الليل وتعيش النهار ، ما لها والحب والغرام والهيام ، سيرة العاشقين يرويها التاريخ على مر الزمان ، كلها فراق وحنين وألم وعذاب ، قالت لنفسها : دعيه وحيداً فى القصر ، سجيناً بين جدرانه يُحدِث نفسه ، حتى يضيق به القصر ويصيبه الجنون ، فيلملم بقاياه ويرحل . .
ظل ساكن القصر يراوده الأمل بأنها يوماً سوف تأتيه ، سوف تشتاق إليه ، سوف تدخل قصرها ، لتعيش معه فيه ، وينعما معاً بحياة جميلة وسعيدة . . إنه كان يُمَنى نفسه ، ولكن . . هل كل ما يتمناه المرء يدركه ؟ ؟  قطعاً . . لا  . . ولكن هكذا حال المحبين ، لا يصيبهم اليأس أبداً .

مرت الأيام تلو الأيام . . وساكن القصر يستيقظ كل صباح ، مع إشراقة شمس يوم جديد ، فيفتح النوافذ ليدخل الهواء والنسيم ، ويتسلل الضياء إلى باحة القصر وكل جنباته ، ثم يمضى إلى حيث بستان القصر ، يروح ويغدو فيه ، تتمايل وتتبختر من حوله الورود والأزهار ، والفروع والأغصان ، وكأنها تغنى معه أنشودة الصباح ، وسط شدو الطيور وزقزقة العصافير . . وتمضى الأيام وصاحبة القصر ما جاءت إليه ، صاركل يوم يشبه سابقه فى أعين ساكن القصر . . . وذات صباح ، خرج ساكن القصر إلى البستان ، أحس أن الحال تبدل إلى حال ، وقعت عيناه على الورود والأزهار والفروع والأغصان ، وجدها ما عادت تتبختر ولا تتمايل ، تساءل : ماذا ألم بها ؟ لقد كانت تتمايل طرباً عندما ترانى ، ما لها ساكنة هكذا ؟ وأين شدو الطيور وزقزقة العصافير ؟ أين ذهبت الطيور وراحت العصافير ؟ لقد كانت تملأ السماء تحليقاً بجناحيها ، وتملأ البستان شدواً وغناءً ، ما عادت الطيور ولا العصافير تقترب من القصر ، إنه يراها بعيداً فى الأفق البعيد ، ولكنها ما عادت تقترب من القصر ، تُرى ماذا حدث ؟ وأى شئ منعها من المجئ إلى القصر ؟ وأين ذهب النسيم العليل هو الآخر ؟ إنه ما عاد يملأ باحة القصر عِطراً ؟

مضى ساكن القصر إلى داخله ، والألم والحزن يعتصران قلبه وكيانه ، والحيرة تكاد تفتك بعقله ، كلما وقعت عيناه على شئ فى القصر ، وجده قد تغير وتبدل ، ما عاد شيئاً كما كان بالأمس . . جلس إلى جوار إحدى نوافذ القصر ، يُحدِث نفسه وتحدثه ، يتعجب ويُبدى دهشته لما حدث ، ظل يُفكر ويُفكر ويُفكر . .  وبينما هو على هذا الحال ، ينظر من النافذة ويتأمل السماء ، رأى عصفوراً قادماً فى الأفق من بعيد ، قاصداً ناحية القصر ، تعجب لأمر ذلك العصفور ، الذى حلق منفرداً تاركاً بقية العصافير تجاه القصر ، إقترب العصفور وظل يحوم حول النافذة التى يجلس بجوارها ساكن القصر ، راح العصفور وجاء ، ثم راح وجاء ، نظر إليه ساكن القصر وتعجب من أمره . . إقترب العصفور من النافذة ، ثم وقف على حافتها وطوى جناحيه ، يتطلع إلى ساكن القصر ، وكأنه يرثى لحاله ، ويشفق عليه مما هو فيه . . ودار بينهما حديثاً :
سأله ساكن القصر : ماذا أتى بك أيها العصفور إلى هنا ؟ أجبنى ! !
رد العصفور قائلاً : وماذا أتى بك أنت إلى هنا ، أيها الساكن الجديد ؟
قال ساكن القصر : أردت أن أكون بجوارها ، أن أدخل قلبها ، وأسكن فى قصرها . . إنى أحبها !
قال العصفور : ولكنها لا تريدك فى قلبها ، إنها لم تدع أحداً يسكن قصرها من قبل ، لماذا دخلت عنوة ؟
قال الساكن : أردت أن أعيش الحياة معها ، فى قربها ، أريد قلبها الطيب وقصرها الجميل
قال العصفور : ولكنها لا تريد أن تعيش الحياة مع أحد . . إنها تريد أن تحيا وحيدة ، دعها وشأنها
سأل الساكن : وأين بقيتكم من الطيور والعصافير ؟
قال العصفور : لقد رحلنا جميعاً إلى حال سبيلنا ، ولم يبق إلا أنت ، لم نعد نحوم حول القصر ، بعد أن أيقنا أنها لا تريد نا ، تركنا لها قصرها وبستانها ، وبحثنا عن قصر آخر وبستان آخر ، الدنيا تملؤها القصور وتزدحم بها البساتين ، مالنا وقصرها وبستانها ! !
سأل الساكن : وهل كنتم هنا قبل أن أدخل القصر ؟
قال العصفور : لا . . لم يكن هنا أحد سوى حراس القصر ، لقد جئنا معك ، أغريتنا أنت بالحياة والشدو والغناء ، وأوهمنا نحن أنفسنا بأن لنا حياة فى ذلك القصر . . قبل مجيئك لم يكن فى القصر ما يُغرينا ، حراسه واجمون ، نوافذه مغلقة ، أبوابه موصدة ، وروده وزهوره ورياحينه ذابلة ، فروعه وأغصانه جامدة لا تتمايل . . أنت أتيت فأتت معك الحياة ، فجئنا إلى القصر لنحيا .
سأل الساكن : وما الذى أتى بك مرة أخرى ؟
قال العصفور : نشفق عليك ونرثى لحالك ، أرسلنى كبيرنا كى أنصحك بأن ترحل ، نحن أحببناك ولكنها لم تحبك ، ولا ترغب فى قربك ، ولا تريد لك أن تدخل قلبها ولا أن تسكن قصرها ، أما نحن فلا نرضى لك أن تضيع أيامك ولياليك هنا وحدك ، نحن وأنتم لا نعيش إلا مرة واحدة ، صحيح أعماركم أطول من أعمارنا ، ولكنها لنا جميعاً حياة مرة واحدة ، فلا تضيعها على أمل لن يتحقق ، ورجاء لن تلبيه لك . . لقد أقسمت ألا تدعك تسكن قصرها ، ولقد سمعناها جميعاً تقسم وتقسم وتقسم .
قال الساكن : وماذا أفعل إذن ؟ قل لى ؟
قال العصفور : أترك هذا القصر وإرحل فوراً ، إنه قصرها ، دعها تهدمه على رأسها ! !
قال الساكن : ومن يا تُرى سوف يسكنه بعد أن أرحل منه ؟
قال العصفور : لا أحد . . لا أحد . . إنها تريده خَرباَ ومظلماً ، تريده بلا روح ولا حياة ، عاشت هكذا فيه لسنوات وسنوات ، مالك أنت وهذا القصر ؟ سوف يضيع عمرك فيه ولن تجنى شيئاً سوى الهم والغم .
قال الساكن : وهى . . هل أتركها وحيدة ، وأذهب بعيداً ؟
قال العصفور ( ناصحاً ) : أنج بنفسك ، إنها لا حياة فيها ولا معها ، إنها كانت تمثل فى نظرنا قبل مجيئك الجمود والموت ، كنا نحلق بعيداً عنها وعن قصرها ، ما آتينا إلى هنا إلا معك ومن أجلك . . إننا نعشق الحياة مثلك ، ونعشق الشدو والغناء ، وهى بلا حياة ولا شدو ولا غناء ، فرحلنا .
قال الساكن : ولكنى أحبها ، وقلبى متعلق بها ، إنها توأم عقلى وفكرى ، أخشى أن يُصيبنى الجنون إن بعدت عنها .
قال العصفور ( راجياً ) إسمع نصيحتى ، إذهب بعيداً عنها وأحبب من شئت غيرها ، إنهن كثيرات ، القلوب كثيرة والقصور عديدة ، لن تجد الحب معها ، وسوف تدمى قلبك بسببها ، إن ظللت بجوارها لن ينالك إلا التعاسة والشقاء ، وأنت نقى طيب القلب ، لا تعذب نفسك ، ولا تلقى بها إلى التهلكة ، صدقنى إنها الهلاك والفناء ، لقد أحببناك ومن أجل ذلك جئت إليك .
قال الساكن : أتركنى وأرحل أيها العصفور الشقى ، إنك تريد أن تحرمنى منها وتبعدنى عنها ، إنكم تكرهونها ، ومن أجل ذلك تتمنون لها التعاسة والشقاء ، طِر حالاً وأغرب عن وجهى ! !
قال العصفور ( حانقاً ) : تباً لك من شخص غريب ، أأقطع كل هذه المسافات ، وآتيك برسالة نُصح ونجاة وأنت لا تستجيب ؟ تباً لك ألف مرة . . إنك تسعى إلى الهلاك ، و لن تدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان ! !

وعندئذ . . إستدار العصفور ، ورفرف بجناحيه إستعداداً للطيران ، وهو يردد ويقول : تباً له ، إنه يسعى للهلاك ، ولن يدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان . . إنها لن تدعه يسكن قصرها مهما كان . . وسوف تدمره إذا إقتضى الحال ، إنها شقية لا تبغى الحياة ، ولن يناله منها إلا العذاب ! !

وعلى الفور . . إمتدت يد ساكن القصر إلى النافذة فأغلقها ، ثم أغلق كل نوافذ القصر ، وأوصد أبوابه عليه وهو بداخله ، كى لا يسمع صوت عصفور آخر يدعوه إلى الرحيل . . صحيح هى ما جاءت لترحب به فى القصر . . وصحيح أن كل الطيور والعصافير والورود والرياحين أدركت أنها لن تدعه يسكن القصر ، ولكنها أرسلت له رسالة تخبره فيها بحبها له ، و تبوح له بمكنونات صدرها ، وتدعوه إلى أن يظل فى القصر . . إنه لا يدرك أنها ما أرادت أن ترسل الرسالة ، ولا يدرك أن الرسالة ما كانت لتصل إليه لولا أنها أخطأت صندوق القمامة ، ولا يُدرك الحديث الذى داربينها وبين قلمها ، ولا يدرك أن نصيحة العصفور له بالرحيل عن القصر هى الصواب . . . عناده أودى به إلى الهلاك . . فقد قرر أن يبقى فى القصر ، مهما طال الزمان ، لعلها إليه تميل ، أو يرق قلبها لحاله فترنو إليه . . وإلى أن يحدث ذلك سيظل ساكن القصر فى القصر وحيداً ! !
                                                                      وإلى مقال آخر إن شاء الله .

الأحد، 28 أكتوبر 2012

و لم تكن تدرك . . . . أنها بذلك تفقده ! !


ولم تكن تدرك . . . . أنها بذلك تفقده  ! !
-------------------------------------
كان عمر أصغر أشقائه عُمراً ، فقد كان هو الولد الوحيد بين أربع فتيات ، كن جميعهن أكبر منه ، وقد توفى أبوه وهو فى سن الخامسة وتركه صغيراً ، كانت أمه – رحمها الله -  ربة منزل ، وكانت أماً عطوفة وحنونة كسائر الأمهات ، أدركت بعد موت أبيه أنه قد أصبح يتيم الأب ، فأرادت أن تعوضه عن ذلك ، وأعطته كل إهتمامها وحنانها ورعايتها . . وكان عمر طفلاً هادئ الطباع ، ولم يكن مثل باقى أقرانه يهوى اللعب كثيراً أو الخروج من البيت ، إلا مع إحدى شقيقاته أو أمه ، حتى عندما إلتحق بالمدرسة الإبتدائية التى كانت قريبة من بيته ، كان يروح ويغدو فى هدوء وسكينة ، ولم يكن مُثيراً للمشكلات أو الأزمات مع زملائه أو أقرانه ، فكان يُحسن إختيار أصدقائه الذين يقترب منهم ويسمح لهم بالإقتراب منه ، وإستمر عمر على هذا النهج وتلك الخصال إلى أن أنهى تعليمه الجامعى ، فكان يميل إلى الهدوء والتفكير والتأمل والتحليل ، وإنحصرت هواياته طوال سنوات عمره فى القراءة ولعب الشطرنج وممارسة الرياضة ومشاهدة الأفلام التاريخية والأفلام الدرامية الهادفة ، فلم يكن يهوى أفلام الحركة أو العنف الشديد .

هكذا نشأ عمر . . وسط جو من الهدوء والإستقرار النفسى والعائلى ، وزخم من الحنان والعطف والرعاية ، كانت أمه دائماً تشعره بأنه الإبن الأول والأخير فى حياتها ، وكانت حريصة على إرضائه بشتى السُبل فى حدود العقل والحكمة . . كبر عمر وكبرت معه كل طباعه وخصاله التى تربى عليها ، فكان حريصاً كل الحرص على أن يهتم بمن يحبهم ويحبونه إهتماماً من نوع خاص ، وينتظر أن يبادلونه هذا الحب وذلك الإهتمام على ذات المستوى ، كان يدرك تماماً أن الحياة  بذل وعطاء قبل أن تكون أخذاً ، ولم يكن يرضى بأن يكون إهتمام الآخرين به أقل من إهتمامه بهم ، نما معه الإباء وعزة النفس ، وكان حريصاً دائماً على إحترام الآخرين فى كل أقواله وأفعاله ، لذلك كان محبوباً مُهاباً مُحترماً ممن تعاملوا معه أو إقتربوا منه ، ولم يكن يرضى لنفسه أن يضعها موضعاً لا يليق بها ، وحتى بعد أن تخرج من الجامعة وعمل فى مجال القانون ، كانت تلك هى ضوابط علاقته بزملائه وأصدقائه فى العمل .

وذات يوم من الأيام ، أثناء الإنتخابات وأمام إحدى اللجان الإنتخابية ، ولدى خروجه من اللجنة وإدلائه بصوته ، إقتربت منه فتاة فى منتصف العشرينات من العمر ، تبدو عليها علامات الحيوية والنشاط والجدية ، تضع بطاقة تعريف على صدرها ، وألقت عليه التحية قائلة : إسمى سلمى إحدى عضوات جمعية تنمية المجتمع التابعة لهذا الحى ، ومسئولة عن مراقبة عملية الإنتخاب ومدى إنتظامها ، وسألته عن رأيه فى سير العملية الإنتخابية ، فأبدى الرأى بكل موضوعية وحياد ، فقد كان عمر يؤمن دائماً أن تصحيح أى مسار يبدأ من مواجة المشكلات بكل موضوعية وحياد ، وإعطاء كل أمر قدره ، أبدى عمر رأيه إلى سلمى ثم حياها وإنصرف . . . ولكنه أحس ساعتها بأن شيئاً ما فى هذه الفتاة قد شد إنتباهه ، فعاد إليها مرة أخرى ليُبدى رغبته فى المشاركة معها فى نشاط تلك الجمعية ، أعطته رقم هاتفها المحمول ، وطلبت منه الإتصال بها بعد يومين ، فحياها وإنصرف.  

ولكن . . شيئاً ما ظل عالقاً بذهن عمر ، حتى بعد أن غادرها ، وظل مشغولاً بها بقية اليوم ، أحس عمر أن شيئاً ما قد ربط بينهما ، ما هو ؟ لا يدرى ! ! ولكنه صار مشدوداً إليها ، وظل يتعجل مرور اليومين كى يتصل بها ، وبالفعل هاتفها بعد يومين ، لتحدثه وتطلب منه مقابلتها بمقر الجمعية بعد ساعتين ، كان صوتها ساحراً له أثناء مكالمته معها ، هكذا شعر عمر . .
وبعد ساعتين كان عمر فى مقر الجمعية ، فوجد سلمى فى إنتظاره ، إنتحت به جانباً وجلسا لتحدثه عن طبيعة نشاط الجمعية وشروط الإنضمام لعضويتها ، بعد أن طلبت له كوباً من الشاى ، إستغرق حديثهما قرابة الساعة . . لم يكن عمر بطبيعته يميل إلى ممارسة هذا النوع من النشاط الإجتماعى ، الذى يتطلب كثرة الحركة والنشاط والتواجد المستمر وسط الناس فى الشارع والإلتحام بهم لحل مشكلاتهم ، ولكنه وجدها فرصة سانحة للقرب من سلمى .

تعددت اللقاءات بين عمر وسلمى ، داخل مقر الجمعية وخارجها ، إقترب كلاهما من الآخر كثيراً ، وأبدى كل منهما للآخر إرتياحه معه ، فقد كان عمر فى منتصف الثلاثينات من العمر ، هادئ الطباع ، يتسم بالعقل والرزانة وسعة الأفق ، وكان مُثقفاً ذا معرفة واسعة فى مجالات عديدة ، وكانت سلمى فى منتصف العشرينات ، نشيطة ومتحركة وجادة ، تهوى التعامل مع الناس بحرية عاقلة ومنضبطة ، وكانت لها صفحة على موقع التواصل الإجتماعى الفيسبوك ، تتواصل من خلالها مع الآخرين ، كل هذ أعجب وأدهش ولاقى إستحسان عمر فى سلمى . . . . ولكن ! !

بمرور الوقت شعر عمر أنه يزداد تعلقاً بسلمى يوماً بعد يوم ، ويهوى الحديث معها لساعات وساعات ، وأحست سلمى بإرتباطها الشديد بعمر ، ولكنها بحكم إهتماماتها ونشاطاتها المستمرة والمتواصلة ، لم تستطع أن توفر له ذلك القدر من التفرغ والإهتمام والقرب الذى كانت ترنو إليه نفسه ، كانت تنشغل عنه كثيراً ، حاول التواصل معها بشتى الطرق ، حتى أنه صار مهتماً بالدخول إلى صفحتها على الفيسبوك ، ليقرأ ما تكتبه ويعلق عليه ، كان يتمنى أن يشاركها إهتماماتها ويتعايش معها . . أراد عمر أن يثبت لسلمى أنه بالفعل يحبها ويتمنى القرب منها ، فصارحها برغبته فى الإرتباط بها ، فهو لم يعد يستطيع الإستغناء عنها ، وافقت على الإرتباط وطلبت منه الإنتظار لستة أشهر ، حتى يعود والدها فى أجازته السنوية من العمل فى إحدى الدول العربية ، فرح عمر فرحاً شديداً لموافقتها وقرر الإنتظار . . كان عمر ينتظر من سلمى أن تقترب منه أكثر وأكثر ، وأن تهتم به أكثر وأكثر ، بعد أن صارحها برغبته فى التقدم لخطبتها ، إلا أن الأمر لم يتغير فيه شئ ، ظلت سلمى كما هى ، وظل عمر يعدو ويعدو وراءها هنا وهناك أملاً فى اللحاق بها والقرب منها . .

صارحها بأن ما تظهره من عدم إهتمامها به ، وعدم حرصها على القرب منه مثل حرصه تماماً ، هو أمر له توابعه وآثاره السيئة على علاقتهما ، وأنه ما إعتاد ذلك قط ، إنه إعتاد أن يكون دائماً فى أول الصفوف ممن يحبونه ويحبهم ويهتمون لأمره ويهتم لأمرهم ، وما إعتاد قط على أن يتجاهله أحد ، أو لا يهتم به ، وما رضى لنفسه قط أن يكون فى آخر الصفوف . . أما من يبتعدون عنه ولا يهتمون لأمره ، فلا يأبه بهم قط ، ولا يهتم لأمرهم قط . . صارحها بكل ذلك ، وأبدى لها عدم إرتياحه لإنشغالها الدائم عنه ، وهو الذى ليس فى عقله وفكره سواها ، فهى توأم عقله وفكره ، أكد لها على حبه وسعادته فى القرب منها ، وكان كلما تحدث إليها قال لها " لا تبتعدى عنى وكونى قريبة منى يا سلمى " . . ولكنها لم تكن تأبه بما يقول ، ولم تعمل بنصيحته بألا تبتعد عنه ، ظناً منها أن حبه لها سوف يمنعه عن فعل أى شئ وكل شئ ، فهو قد أمسى لا يطيق لها بُعداً . . وبمرورالأيام ، شعر عمر بأنه لم يعد له مكان فى حياة سلمى المشغولة دائماً ، وأنه حتى ولو إرتبط بها فلن تضعه فى أول الصفوف ، بل سوف تضعه فى آخرها ، لقد إعتادت على ذلك ، لم تستطع سلمى أن تعطه الإحساس بذاته وكيانه معها ، على الرغم من حبها الشديد له ، شعر بأنه معها لن يكون ذلك الرجل الذى تجعله محوراً لحياتها ، فحياتها مفتوحة على مصراعيها لكل الناس وهو منهم ، وهو لا يريد أن يكون من الناس ، ولكنه يريد أن يكون أعز الناس ، وأغلى الناس ، وأول الناس . .

يوماً بعد يوم . . صار البُعاد هو السمة الغالبة على علاقتهما، كانت الأيام تمر ولا يُحد ث كلاهما الآخر ، ولا يسمع كلاهما صوت الآخر ، ولا يرى كلاهما وجه الآخر ، أحبها عمر وتعلق بها كثيراً ، ولكنها أخرجته من حياتها رغماً عنه ورغماً عنها . . لم تعرفه جيداً ، ولم تفهمه جيداً ، ولم تهتم به جيداً ، حسبته مثل كل الناس ، وما هومثل كل الناس ، إهتمت بنفسها فى المقام الأول وتركته وحيداً . . إبتعدت عنه رويداً رويداً حتى صار لقاؤهما صدفة . . لم تكن تدرك أن عمر ليس من ذلك النوع من الرجال الذى لا يقبل ألا يهتم به أحد . . ولم تكن تدرك أنها بإبتعادها عنه ، إنما تقطع الحبل السرى الذى يربطهما . . ولم تكن تدرك أنها بذلك تفقده . . وا أسفاه . . لقد خسرته بعد أن كان كلاً منهما حُلماً للآخر يراوده فى منامه ، وأملاً لا يفارقه فى نهاره ، وقد ضاع الحلم وتبدد الأمل . . .                                                                                                                               
                                                                             وإلى مقال آخر إن شاء الله .

الجمعة، 26 أكتوبر 2012

و ظنت . . . . . . أنه يكتب لها ! !


و ظنت . . . . . . أنه  يكتب  لها  ! !
----------------------------------
كان باهر يهوى القراءة منذ الصغر ، وكانت له مكتبة صغيرة عبارة عن عدة أرفف خشبية  فى حجرته الضيقة ، كونها من مصروفه القليل بشراء الكتب والقصص والروايات القديمة من إحدى المكتبات فى مدينته ، وكان فى مراحل تعليمه المختلفة ، يهوى الذهاب إلى مكتبة المدرسة فى أوقات الفراغ ، ليقرأ ما تيسر له من الكتب والقصص والروايات ، وإستمرعلى هذا النهج حتى بعد تخرجه من الجامعة، لم يدع تخصصه بالعمل فى مجال القانون ، أن ينال من هواية القراءة التى كان تستولى على جزء كبير من وقت فراغه ، وإستطاع أن يقتنى عدداً من الكتب يُقدر بالمئات – بخلاف ما قرأه ولم يستحوذ عليه – خصص لها مكتبة أنيقة فى غرفة مكتبه الخاصة.

قرأ باهر فى شتى المجالات ، ولم يكتفى بنوع واحد من القراءة ، قرأ فى السياسة كثيرأ ، إهتم بفهم العالم من حوله ، كيف يفكر الساسة ، وكيف تُحكم الشعوب ، وكيف تُدار الدول ، قرأ فى تاريخ معظم الشعوب  ، العربية والأوربية والأمريكية ، قرأ فى تاريخ الحروب والمعارك الكبرى بكافة تفصيلاتها السياسية والعسكرية ، يوميات الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وحروب المنطقة العربية بأسرها ، حتى آخر الحروب ( حرب الخليج الأولى والثانية ) مروراً بحرب أكتوبر المجيدة بيومياتها وتفصيلا ت عملياتها العسكرية ، كان يقرأ وكأنه  متخصص فى عالم السياسة والحروب . . قرأ فى الأد ب العربى كثيراً وبعض من روايات الأدب الإنجليزى والفرنسى مترجماً فى جزء منه إلى العربية ، فقد كان يُجيد الإنجليزية ، قرأ لكثير من الأدباء والشعراء ، وإحتقظ ببعض قصصهم ودواوينهم فى مكتبته الخاصة ، قرأ لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين والعقاد ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وغيرهم كثير ، وقرأ فى الشعر العربى القديم والحديث لشعراء عظام ، أحب أشعار المتنبى وإبن العتاهية والنابغة الزبيانى و جرير والفرزدق والخنساء ، ومن الشعراء فى العصر الحديث قرأ لأحمد شوقى ( أمير الشعراء ) وحافظ إبراهيم ( شاعر النيل ) وأحمد رامى ( شاعر الشباب ) وأبو القاسم الشابى ومحمود درويش وأمل دنقل  وفاروق جويدة  ، وغيرهم من الشعراء المعاصرين . . قرأ فى الأديان السماوية ، كثير من الكتب الإسلامية ، وقرأ الإنجيل والتوراة كاملين . . قرأ فى الطب والهندسة والزراعة والإقتصاد والفلسفة وعلم النفس وعلوم الإجتماع وإدارة الأعمال . . قرأ فى كل شئ ، لأنه يؤمن بأن الثقافة شئ والتعليم شئ آخر ، وأن الثقافة هى" أن تعرف شئ من كل شئ ، لا أن تعرف كل شئ عن شئ واحد فقط " ، فغالبية المتعلمين فى العالم العربى جهلاء جهلاء ، بسبب إنحطا ط مستوى التعليم من ناحية ، ولأن العرب ما صاروا يهتموا إلا بالسخافات والتفاهات ، وشبابهم – فى أغلبهم – أمسوا تافهين ، سخفاء ، سطحيين ، عقولهم خاوية تصفر فيها الريح . . كثيراً ما تحاورت وتناقشت مع البعض منهم ، كنت أحزن وأتألم لحالهم ، ولجهلهم ، ولصغر عقولهم ، وضيق أفقهم ، الحديث معهم أشبه بمن يحاول أن يقرأ جريدة فى الطريق العام فى يوم عاصف شديد الرياح والأتربة ، قطعاً لن تثمر قراءته شيئاً  . .

وظل باهر على هذا النهج فى حياته . . قارئاً ودارساً وفاحصاً ومحللاً لكل شئ من أصغره إلى أكبره ، حتى بلغ من العمر الأربعين عاماً ، صارت لديه حصيلة لا بأس بها من المعرفة والثقافة فى مجالات عديدة ومتنوعة ، وأدرك أن الوقت قد حان كى يُخرج كل حصيلة معرفته وثقافته للآخرين ، ليشاركوه فيها ويستفيدون منها . . وبالفعل أرسل باهر لإحدى المجلات الأسبوعية ، غير المتخصصة فى نوع واحد من المعرفة ، واسعة الإنتشار فى مصر والبلاد العربية ، قبلت إدارة المجلة أن تنشر مقالاته بعد أن طلبت منه نماذج منها للوقوف على مستوى وأسلوب الكتابة ، بعد حيرة وتردد فى أى المجالات يكتب ، فلديه القدرة على الكتابة فى كل شئ وأى شئ ، ولكنه لابد أن يختار مجالين حسب ضوابط النشر بالمجلة ، فإختار أن يكتب فى السياسة والأدب العربى . . وبدأت مقالاته فى الظهور أسبوعياً ، بواقع مقالين أحدهما سياسى والآخر أدبى فى صورة مقال أو قصة قصيرة , وبدأ قراء المجلة من كافة البلدان العربية يتواصلون معه ويرسلون إليه تعليقاتهم على مقالاته وقصصه ، وأسعده هذا الأمر كثيرا ً ، كان قراؤه من كافة الأعمار والأجناس ، خاطب الشباب والكبار ، والنساء والفتيات ، وإزداد قراؤه يوماً بعد يوم ، وبصفة خاصة قراء المقالات الأدبية ، التى تنوع قراؤها بدرجة واضحة . . . وكان من بينهم علياء . .

كانت علياء فتاة تونسية ، فى منتصف العشرينات من عمرها ، وكانت عاطفية رقيقة وحالمة ، لها قلب أبيض صافى شديد الصفاء والنقاء ، قرأت إحدى قصصه فأعجبتها ، وأرسلت إليه تعليقاً أبدت فيه إعجابها بأفكاره المتنوعة وأسلوبه الرائع البديع ، تعددت المقالات والقصص الأدبية التى تستهويها ، وتعددت معها خطابات علياء إليه ، أسعده كثيراً خطاباتها وتعليقاتها ، وأحياناً كانت ترسل إليه بعضاً من خواطرها ليبدى رأيه فيها ، إعتبرها بالنسبة إليه أخته الصغرى ، وكان يخاطبها بهذا الإسم دائماً . . أختى الصغرى / علياء . ولكن يبدو أن كان لها رأى آخر . .
فجأة . . . بدأت خطابات علياء إليه تأخذ منحى آخر ، وتحوى تساؤلات لم يكن يتوقعها ، سألته ذات مرة بعد أن قرأت قصة من قصصه أعجبتها : هل كتبتها لى ومن أجلى ؟ ؟  ومرة أخرى أخبرته بأنها تتمنى لو كانت إحدى بطلات قصصه الرائعة  , وبدأت تلاحق مقالاته وقصصه الأدبية تحديداً ، تقرأها ثم تعيش أحداثها وتتخيل أنها بطلة هذه القصة . . صحيح أن أسلوب باهر كان ممتعاً ، سهلاً وبسيطاً ، راقياً فى كلماته ، أنيقاً فى تعبيراته وصوره وتشبيهاته ، وكانت جميع قصصه لها مذاق خاص وعطرها من النوع الفواح . .

لقد حاول أن يوضح لها – عدة مرات – أنه لا يقصد أحداً بعينه فى كتاباته وقصصه الأدبية ، وأن القصص الأدبية تقوم فى الأساس على وحى خيال القصاص أو الأديب ، مع إستعارة بعض الأسماء أو الصفات ممن حوله فى ربوع الحياة ، ولطالما كتب يوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وحتى منى نور الدين ، رواياتهم الجميلة الرائعة الحالمة ، من وحى خيالاتهم ، وأغرقوا فى الرومانسية حتى كنا نغرق معهم فى بحور دموعنا ، وكانوا يحلقوا بنا فى الخيال كيفما شاءوا ، ولكن عقلها رفض أن يستوعب ذلك ، وغلبتها عاطفتها الجميلة الرقيقة الوديعة ، فسكت صوت العقل لديها ، وعزفت أوتار العاطفة والرومانسية مقطوعة الهيام  .  . . . ولكن ! !

لم يكن هو على إستعداد لأن يستمر الحال على هذا النحو ، إنه يكتب من وحى خياله الخصب ، وقد وهبه الله - سبحانه وتعالى - القدرة على أن يتخيل كل شئ وأى شئ له علاقة بالمشاعر الإنسانية ، ومكنونات الصدور، وسرائر النفوس ، وأعماق النساء ، وأغوارالوجدان والكيان ، وأن يصوغ كل ذلك بأسلوبه الناعم ، الرائع المحكم ، تساعده مفرداته وأدوات لغته وبلاغته ، فيحيل الحلم والخيال إلى واقع ملموس وحياة . . . وكان لابد من وقفة ونقطة نظام ، لتحديد الأمور والأشياء ، بشكل قاطع وحاسم ، كما تعود هو فى حياته ، وخاصة فى المشاعر الإنسانية .

لم تقبل هى صراحته ، ولم ترض أن يوقظها من ذلك الحلم الذى أغرقت نفسها فى النوم من أجل رؤيته كل يوم ، ولأنها عاشت حيوات كل بطلات قصصه ، وأوهمت لنفسها أنها هى البطلة . . واليوم هو يريد أن يسلبها حلمها ، ويُخرجها من الجنة فى علياء السماء ، كى يُهبطها إلى الأرض ، وحواء لن ترضى أبداً أن تهبط إلى الأرض بعد أن هامت فى ملكوت السماوات  . . صارحها بأن ما كتبه لم يكن لها ولا لغيرها . . رفضت أن تصدقه . . ظنت أن كلماته كاذبة وتبريراته واهية . . وأنه لم يكن يكتب إلا لها ومن أجلها . . وأنه لولاها ما كان ليكتب أبداً . . فهى ملهمته وبطلة كل قصصه . . . . وهى . . . . وهى . . . .و هى . . . .  
وكانت النهاية التى لم يكن يريدها قط . . لقد خسرها وضاعت منه إلى الأبد . . قارئة رائعة وأخت صغرى جميلة رقيقة حالمة . . ويا لها من خسارة لم يكن يتوقعها أبدأ . . إنها خسارة من ذلك النوع الذى لا يتحمله . . ولن يتحمله لأيام وليالى طويلة . . وإلى مقال آخر إن شاء الله .     

الأربعاء، 24 أكتوبر 2012

و جاءت . . . . . . لتقول وداعاً ! !


وجاءت . . . . . . لتقول وداعاً  ! !
--------------------------------

جلس حسام إلى مكتبه فى قسم الأرشيف ، بمديرية التربية والتعليم بالمنصورة . . إنه صباح أول يوم عمل بعد أجازة عيد الفطر ، وكعادة الموظف المصرى يعود إلى عمله بعد الأجازة متراخياً ، لا يبتغى أداء أى عمل . . ظل حسام يتنقل بين المكاتب المختلفة ، إلى أن إنقضت ساعة كاملة من وصوله ، ثم جلس إلى مكتبه ليرى ما لديه من أعمال متراكمة من قبل أجازة العيد ، وبدأ يقلب فى أوراقه المبعثرة على المكتب أمامه . . وبعد مرور حوالى نصف ساعة ، رن فجأة ها تفه المحمول  ، فإلتقطه بسرعة ليرى من المتصل ، ووجدها فرصة لإضاعة بعض الوقت بالحديث فى الهاتف  ، نظرإلى الهاتف فوجد إسمها على الشاشة ، إنها فداء التى تتصل به ، أخذته الدهشة وتساءل : لماذا تتصل بى فجأة هكذا فى العمل ؟ إن موعد لقائنا مساء اليوم ، ربما تتصل لتعتذر ؟ أفا ق سريعاً ورد على الهاتف : صباح الخير يا فداء ، ردت : صباح الخير ، بادرها بالسؤال : خيراً ماذا حدث ؟ فأجابته :أنا أتصل بك كى أؤكد موعد لقائنا فى السادسة مساء اليوم ، فرد حسام مؤكداً : نعم نعم أنا أتذكره وفى إشتياق لرؤياكِ . . لم يكمل حسام كلماته وسمع صوت فداء تنهى المكالمة بقولها : لا تنسى لا تنسى . .

أغلق حسام هاتفه ووضعه على المكتب ، وشعر بإحساس غريب ينتابه ، وبدأ يتساءل : تُرى ما الذى دفعها للإتصال مبكراً هكذا كى تؤكد موعد لقائنا اليوم ؟ إنها لم تفعلها  قط ، إن صوتها به شئ غريب لم أعهده من قبل ، ولستُ أدرى ما بها ، تُرى هل دفعها الشوق لأن تتصل بى ؟ مضت خمسة أيام متتالية منذ آخر لقاء بيننا قبل أجازة العيد ، ولكن صوتها لا يوحى بذلك ، لقد أنهت المكالمة بسرعة حتى قبل أن أنهى كلماتى . . تساؤلات وتساؤلات أخذت تحوم حول رأسه ، ولا يجد لها جواباً ، أطلق حسام لخياله الحبل على غاربه ،وكأنها فرصة واتته كى يتهرب من الملفات المتراكمة على مكتبه ، ساعده على ذلك الهدوء فى صالة الأرشيف ، فكل زملائه فى القسم لم يحضر منهم أحد اليوم ، كان هو الوحيد الذى حضر ، فهو الوحيد بين زملائه غير المتزوج ، وليس لديه ما يشغله عن العمل ، بلغ من العمر ثلاثة وثلاثون عاماً ، وما زال يحاول الصمود فى الحياة ، والوقوف على قدميه ، ليستطيع الزواج من الإنسانة الوحيدة التى أحبها ، إنها فداء التى حادثته عبر الهاتف منذ قليل . .

إلتقى بها منذ عامين ، جاءت إلى مديرية التربية والتعليم بالمنصورة ، كى تنهى إجراءات صرف معاش والدها الذى توفى آنذاك ، رافقها وعاونها فى تسليم المستندات المطلوبة ، ووعدها بمتابعة الإجراءات بدلاً منها ، فشكرته على مساعد ته ، وأعطته رقم هاتفها المحمول ليتواصل معها . . ومنذ هذه اللحظة بدأت إتصالتهما ، وتبادلا الحديث عدة مرات ، إلى أن أباح لها بمكنونات صدره ، وكشفت له عن أعجابها الشديد به ، وبمواقفه التى تتسم بالرجولة والشهامة تجاهها ، تبادلا الكلمات الرقيقة ، وتعددت اللقاءات ، وتعاهدا على الزواج بعد أن أوضح لها حسام كل ظروفه ، فلم تبدى إعتراضأ ، ووعدته بأن تنتظره سنوات حتى يتهيأ للزواج . . فرح حسام بفداء وفرحت به ، مال إليها ومالت إليه ، أحبها وأحبته ، وكان حبهما يزداد كلما مرت الأيام ، كل منهما صار يعرف ما بداخل الآخر من نظرات عينيه . آخر مرة إلتقى بها كانت قبل أجازة العيد ، تبادلا التهانى والهدايا ،خرجت الكلمات من شفاههما مغلفة بالحب والغرام ، ودعها قبل العيد بكلمة لا إله إلا الله ، وودعته هى بمحمد رسول الله ، بعد أن إتفقا على اللقاء بعد إنتهاء العيد . . واليوم إتصلت به فجأة ، على غير عادتها ، وصوتها يُنبئ بأن شيئاً ما وراء هذه المكالمة .

إنتهى حسام من عمله ، وذهب إلى البيت ، ظل القلق ينتابه حتى حان وقت الخروج لملاقاتها ، ذهب قبل الموعد المحدد بنصف ساعة ، فهو لم يعتاد أن يجعلها تنتظره وحدها ، كان حريصاً جداً على مراعاة مشاعرها . .  وفى تمام الساعة السادسة حضرت فداء ، كان لقاؤهما دائماً فى أحد الأماكن العامة على شاطئ البحر بمدينة المنصورة ، وسط الأضواء المنعكسة على صفحة مياه البحر ، حضرت فداء وقام لها حسام يستقبلها ويُهيئ لها مقعدها حتى جلست ، نظر لوجهها فوجد ملامح لم يشهدها من قبل ، ألقت عليه السلام دون أن تذكرإسمه ، لم تبتسم له ولم تبدى لهفة أو إشتياقاً ، أحس بها جامدة وباردة لأول مرة ، نظر إليها حسام نظرة حانية ، يحاول أن يستكشف ما ألم بحبيبته . . أشاحت بوجهها عنه نحو صفحة الماء ، وطال الصمت بينهما حتى بادرها هو بالسؤال :
سألها : ما بكِ يا فداء ؟ ماذا حدث ؟
قالت : لا شئ بى . . عادى !
قال : لا . . هناك أمر غير عادى ، إتصلتِ بى على غير عادتك صباح اليوم ، كى تؤكدى على موعد لقائنا ، وأنتِ تعلمين تماماً أننى لا أنساه أبداً ، وأحسست من نبرات صوتك بشئ غير عادى .                                                                                      قالت ( وهى تستجمع قواها ) : لقد جاءنى عريس خلال أيام العيد .
قال حسام متسائلاً : وما الجديد فى ذلك ؟ لقد سبقه آخرون غيره وكنتِ ترفضين ، ماذا حدث ؟
قالت : لا هناك جديد . . هذا العريس مختلف عمن سبقوه ، إنه جاهز ، معه كل شئ ولديه كل شئ ، أما الآخرون فلم يكونوا جاهزين .
بادرها حسام بالسؤال : وهل كنتِ ترفضينهم لأنهم غير جاهزين ؟ أم لأنكِ تحبيننى ؟
سكتت فداء ولم ترد ، عدم ردها أحزنه وآلمه كثيراً ، إلا أنه أراد ألا يقطع الحديث بينهما ،
فسألها : ومن هو ؟
قالت : إنه شقيق إحدى صديقاتى ، يعمل طبيباً فى دولة الإمارات العربية منذ عشر سنوات ، وهو حالياً فى أجازة ، وتقدم للزواج منى أثناء العيد ، ويرغب فى إتمام الزواج فى خلال شهر ليعود إلى الإمارات ، وأهلى جميعاً راضون عنه ، وأنا . . . . . . . .  وسكتت ولم تكمل ! !
قال حسام : إذن . . هو جاهز فعلاً  .
قالت  : نعم . . لديه شقة فاخرة هناك ، ولديه سيارة حديثة ، ويتقاضى راتباً كبيراً .
قال حسام : وأنا يا فداء ؟
قالت على الفور : وأنا  ؟
صدمته سرعة إجابتها ، ونبرة صوتها ، وهى تنطق بكلمة أنا ، أحس فيها بالشعور بالأنانية ، ولكنه تمالك نفسه وأكمل الحديث . .
قال : إنها أول مرة أسمعك تنطقين بهذه الكلمة يا فداء .
قالت ( وهى ترجع بظهرها إلى الوراء ) : أنت أنت ، وأنا أنا ، إننا شخصان مختلفان ، لكل منا مصالحه ، و لكل منا شخصيته ، وهذه حقيقة لا بد أن تدركها جيداً ، كى تعيش فى هذه الحياة .
قال : لقد تعاهدنا على الزواج ، و وعد تنى أن تنتظرى معى حتى أستعد وأتقدم للزواج منكِ .
قالت : إنتظرتك عامين ، ولكنك تحتاج إلى وقت أطول ، وأنا لن أستطيع الإنتظار أكثرمن ذلك .
قال متهكما : الواضح أنكِ لم تنتظرينى ، إنكِ كنت تنتظرى العريس المناسب ، وها هو قد حضر
قالت معترضة : من حقى ألا أظلم نفسى من أجلك .
قال راجياً : وأنا يا فداء ، ألست أحبك ؟ ألست أريدك زوجة لى ؟
ظل حسام يتحد ث ويتحد ث ويتحد ث ، وفداء بدا عليها وكأنها لا تسمعه ، فقد صَمت آذانها عن حديثه ، ولم تعد تنصت إليه . . نظرت فى ساعتها وقالت : لقد تأخرت ، لا بد أن أعود للبيت . . فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها مظروفاً متوسط الحجم ، ووضعته أمام حسام ، فسألها على الفور : ما هذا المظروف ؟ وما الذى بداخله ؟
قالت : إنها خطاباتك التى أرسلتها إلىّ خلال العامين الماضيين ، خذها ، لم أعد فى حاجة إليها !
فقال حسام ( وهو يهز رأسه ) : وخطاباتك التى لدى ، ألستِ تريدينها ؟  ألستِ فى حاجة إليها ؟
قالت ( وهى تبدى عدم إهتمام ) : إن أردت الإحتفاظ بها ليس عندى مانع ، وإذا لم تريدها مزقها أو إحرقها ، أنت حر فيها ، ولكننى لا أريدها كى لا تذكرنى بك !
قال : إنها خطاباتك ، كلماتك ، أشعارك وقصائدك ، أيامك ولياليكِ ، إنها ذكرياتك !
قالت ( وهى تستعد للوقوف ) : لا . . بل هى ذكرياتك أنت ، حياتك أنت ، إفعل بها ما تشاء .
ونهضت واقفة فى ثبات ، وبكل قوة وصلابة وعدم إكتراث  ، قالت له  : وداعاً  . . .  
إنها كلمة واحدة نطق بها لسانها ، ثم إستدارت لتمضى فى طريقها ، ولم تنظر خلفها قط  حتى إختفت عن ناظريه ، وهو جالس فى مكانه لا يتحرك ، تتابعها عيناه ، ولا يكاد يصدق ما حدث ، إنها لم تنتظره حتى يرد لها الوداع ، إنها لم تنطق  بإسمه قط طوال حديثها معه . .
أيقن حسام ساعتها . . أن فداء قد باعت حبهما وقبضت الثمن . . وأنها ما جاءت اليوم لتعبر له عن حبها وإشتياقها إليه بعد فراق عدة أيام . . وأنها ما جاءت لتبقى على العهد والوعد . . وأنها ما جاءت لتؤكد له أنها سوف تكمل معه المشوار . . إنما جاءت لتنهى ما بينهما . . وجاءت لتقول له كلمة واحدة . . . . . . . وداعاً ثم رحلت ! ! 
                                                                         وإلى مقال آخر إن شاء الله .              

إنتبهوا أيها المصريون . . . مصر على مشارف مأساة ! !


إنتبهوا أيها المصريون . . . مصر على مشارف  مأساة ! !
-------------------------------------------------------

قال تعالى فى كتابه العزيز: " . . . ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . . . " صدق الله العظيم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " صدق رسول الله .
فقد نهانا الله عز وجل عن إيذاء النفس ، وأمرنا بالإبتعاد عن مواضع الهلاك ، فالمؤمن الحق لابد أن يحفظ لنفسه وجودها وكيانها ، وألا يعرض حياته أو حياة أبنائه من بعده لخطر أو هلاك ، والحفاظ على الأوطان هى من ضرورات حفظ المرء لنفسه ، من التعرض للخطر أو الهلاك . .

ولعل من مسببات الوقوع فى المهالك ، إختلاف آراء الناس حول المصالح العليا للوطن ، إختلافاً يصل بهم إلى حد التشرذم والتفتت والتحزب ، وعندئذ تحل الكارثة وتقع الفتنة الكبرى ، وتضيع مصلحة الوطن وتتلاشى ، لتحل محلها المصالح الشخصية الضيقة والمطامع الخاصة .

وهنا . . لابد ,ان نعود إلى الوراء قليلاً ، لنتذكر شباب مصر المخلصين الأوفياء ، الذين ضحوا بأرواحهم وسالت دماؤهم الزكية فى ميادين مصر كلها ، خلال أحداث ثورة 25 يناير 2011 ، هذه الثورة التى قامت من أجل تغيير أحوال البلاد والعباد نحو الأفضل وإلى الأمام . . ومضت ستة عشر شهراً كاملة ، تحت الحكم العسكرى ، حتى أصبح لمصر رئيساً مدنياً منتخباً ،لأول مرة فى تاريخها كله ، القديم والحديث ، وتأكد للعالم قاطبة أن مصر أصبحت على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل تاريخها العريق . . نظر العالم إلى ثورة المصريين ،نظرة إحترام وتقدير وإكبار ، وتوقع الجميع أن مصر سوف تنهض من عثرتها و كبوتها، وأن شعبها الطيب الأصيل سوف يهب واقفاً على قدمين ثابتتين ، كى ينطلق ومعه مصر ، إلى غد أفضل ومستقبل واعد .

ولكن . . للأسف الشديد . . وأكرر فأقولها للأسف الشديد . .  إنقضت قرابة أربعة شهور ، منذ إنتخاب الرئيس / محمد مرسى ، وأصبح حال المصريين يسوء يوماً بعد يوم – وهذا يُسعد خصوم مصر والثورة بلا شك – ولكن واقع الحال أن هناك أزمات ومشكلات إقتصادية متتالية ، ومطالب فئوية ومالية لا حصر لها فى كل قطاعات الدولة ، وإنقسامات وتشرذم وتفتت فى الشارع السياسى المصرى ، وإنهيار لأمن الوطن والمواطنين لم يسبق لمصر أن مرت بمثيله من قبل ، وإغفال واضح للمصلحة العليا للوطن من كل القوى ومن كل التيارات ، مع إعلاء المصالح الشخصية والمطامع الخاصة على مصلحة الوطن .

الصورة قاتمة ، وتزداد قتامة يوماً بعد يوم ، والسُحب تتجمع فى الأفق تُنبئ بمزيد من التراجع والإنهيار ، فى الأحوال المعيشية للمواطنين المصريين البسطاء ، الذين عانوا لسنوات طويلة ، وما عادوا يتحملون المزيد من المعاناة ، ولا أحد يراقب أو يرقب تلك السُحب ، أو يعى أنها حين تمطر ، فإنها سوف تمطر مطراً أسوداً فى كل أرجاء مصر ، وعلى رؤوس كل المصريين ، لن تستثنى أحدأ ، أو تنجو منها طائفة أو فئة ، الكل سوف يطاله الهلاك ، ولا عاصم منه حينذاك . .
فئات الشعب المصرى كلها تتناحر وتتصارع وتتقاتل بكل قوتها ، متجاوزة كل الحدود ، ومتخطية  لكل الأصول والثوابت ، ومتجاهلة كل الأعراف ، وكل ضوابط المشروعية . .  ولست أرى فى ذلك إلا مأساة مقبلة مفزعة ، وكارثة مدمرة قادمة ، سوف تحل بالبلاد قريباً ، وليلطف بنا الله . .

ولقد نبهت من قبل مرات ومرات - فى مقالات سابقة لى - إلى ما أصاب المصريين بعد ثورة 25 يناير ، وحذرت من هيمنة الحزب الواحد – أياً كان -على مصر و مقدرات شعبها ، وطالبت أنصار مبارك ومؤيديه ألا ينسوا أنهم مصريون ، وناشدت جميع الأحزاب والقوى السياسية بالنزول إلى الشارع والعمل بين الجماهير والإلتحام بهم ، من أجل خلق كيان شعبى قوى ، يمكنه الوقوف والصمود فى وجه الإخوان المسلمين وذراعهم السياسى ( حزب الحرية والعدالة ) لإحداث التوازن على الساحة السياسية المصرية . . نبهت ، وحذرت ، وطالبت ، وناشدت ، ولكن دون جدوى ، حتى الآن .

فيا أيها المصريون . . . إنتبهوا جيداً ، أنتم بإختلافكم وتشرذمكم وتفتتكم ، تسرعون بمصر إلى حافة الهاوية ، أراكم عاقدين العزم على السقوط بها بها فى مستنقع البغى والضلال ، آخذين بيدها إلى نفق طويل مظلم شديد الظلام . . إقرأوا التاريخ ، الثورة البرتقالية فى أوكرانيا وعودة النظام الفاسد القديم ليست ببعيدة . . أين مصلحة مصر ؟ وأين وحدتها ؟ وأين نهضتها ، مصر هكذا لن تنهض أبداً ، مصر فى طريقها إلى الإنحدار الشديد وهى فى أيديكم . . مصر فى طريقها إلى الهلاك وأنتم سائرون بها . . مصر الآن على مشارف كارثة كبرى ، ومقبلة على مأساة مفزعة ، أفيقوا وإنتبهوا . . أبصروا الطريق جيداً ، وأتقوا الله فى مصر . . وإلى مقال آخر إن شاء الله .
  

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

عندما تستجيب السماء لدعاء المُحبين ! !


عندما تستجيب السماء لدعاء المُحبين  ! !
--------------------------------------

كانا على موعد ولقاء ، إنه مساء الجمعة من كل أسبوع ، حيث يلتقيان ليقص كل منهما على الآخر ما جرى له وما حدث طوال السبعة أيام الماضية ، يجلسان ثلاث ساعات ليتبادلان أطراف الحديث ، تلتقى العيون فتتبادل نظرات الحب والإشتياق ، وتتلامس الأيدى فيشعران بالطمأنينة والأمان ، تنطق الشفاه بالكلمات الحلوة والمعانى الجميلة ، وتختزن الصدور والقلوب زاداً من الود والعطف والحنان ، لسبعة أيام قادمة ، لن يرى خلالها كل منهما الآخر ، فقد كانا من بلدتين متجاورتين ، وتعارفا فى عُرس زفاف لأحد أقاربها ، ربط بينهما الحب ، وتعاهدا على الوفاء والإخلاص ، وتواعدا على اللقاء مساء  الجمعة من كل أسبوع ، فى بلدة أخرى مجاورة ، كى يظل حبهما سراً بينهما ، حتى يشاء الله أن يجمعهما فى حياة واحدة .

وكعادته دائماً ، كان يعد الأيام السبعة عداً ، من بعد وداعهما الأخير ، حتى يحين يوم اللقاء ، فيتعجل الساعات لتمضى سريعاً ، وهى تعانده ، كأنها عزولاً حسوداً بينهما ، وقبل الموعد بساعة كاملة يكون فى حديقة المنتزه ، حيث مكان اللقاء ، ويظل ينظر فى ساعته عشرات المرات ، كأنما يريد أن يقفز فوق الزمن ، ويختصر الأوقات ، تلك هى طقوسه قبل كل لقاء . . عجباً لهذا الزمن ، أنه يمر سريعاً فى الأوقات الحلوة السعيدة ، ويمر بطيئاً حين نتعجله عند الإنتظار .

أخيراً إنقضت الساعة كاملة ، مرت عليه كأنها ساعات ، المهم أنها إنقضت ، هكذا حدث نفسه ، وبدأت الدقائق تمر ثقيلة ثقيلة ، وهو جالس فى مكانه يزداد قلقاً وحيرة ، ماذا حدث لها وماذا جرى ؟ إنها لم تتأخر قط عن موعدنا ، هذه هى المرة الأولى التى أنتظرها ولم تجئ ! تُرى هل حدث لها شئ ؟ هل أصابها مكروه ؟ هل تعطل بها القطار ؟ كلما مرت الدقائق ، كلما إزدادت حيرته وتضاعف قلقه ، تسلل الشيطان إلى رأسه ، وأمسك بيده ، وبدأ يجوب به كل بقاع الدنيا ، ويثير فى ذهنه كل التساؤلات . . إنقضت ثلاثون دقيقة كاملة ولم تحضر ، بدأت أعصابه تتوتر، إمتدت يده لتمسك بهاتفه الجوال ليتصل بها ، خفق قلبه بشدة ، تُرى ما الخبر الذى سوف يأ تينى منها أو عنها عبر الهاتف ؟ تمالك نفسه ، وإستحضر رقم هاتفها الجوال وطلب الإتصال ، جرس هاتفها يرن ولا أحد يرد ، عاود الإتصال ثانية وثالثة ورابعة ، ولا أحد يرد ، أصابه التوتر أكثر وأكثر ، إتصل مرة خامسة ، أخيراً سمع صوت يتحدث كأنه من بعيد ، كان صوتاً ضعيفاً جداً ، ولكنه إستطاع أن يتبينه بقلبه ، إنه صوتها ! سألها : ما بك ؟ قالت أنها مريضة ، وأنها ما إستطاعت أن تأتى للقائه لهذا السبب ، أخبرته بأنها أصيبت بالأمس بنزلة برد شديدة أعجزتها عن الخروج ، وأبدت له أسفها لأنها لم تتمكن من الإتصال به قبل موعدهما لشدة المرض ، تمالك نفسه وتمنى لها الشفاء العاجل و السلامة ، وأخبرها أنه سيكون فى إنتظارها الجمعة القادمة .

أغلق الهاتف ، وإنتابته حالة من الحزن الشديد ، حزنه صار حزنين ، حزن لمرضها ، وحزن لعدم مجيئها ، لقد كان لقاؤهما أهم شئ فى الوجود بالنسبة له ، كان يشعر وهى معه بأنه يمتلك الدنيا بأسرها ، وهو معها لم يكن يدرى بالعالم من حوله ، لم يكن يرى سوى وجهها ، ولا يسمع سوى صوتها ، ولا ينظر إلا فى عينيها ، عيناها ذات اللون الأزرق كانتا بالنسبة له هى سماؤه الزرقاء الصافية التى يحلق فيها بجناحيه ، مثل طائر حر طليق ، و بسرعة تنقضى ساعات اللقاء ، ويحين موعد الرحيل ، ويشعر وكأنه ما جالسها إلا دقائق معدودة .
ولكنها اليوم لم تأت ، ولم تجلس معه ، ولم ينظر فى عينيها ، ولم يحادثها ، ولم يسمع صوتها العذب الجميل ، ولم يملأ صدره سوى الحزن والألم . . منعها المرض اللعين أن تأتى إليه ، حرمه منها وحرمها منه ، شعر بالحزن الشديد لمرضها ، حتى أنه تمنى من الله أن يمرض هو وتُشفى هى ، طلبها من ربه حباً فيها وشفقة عليها ، وتمناها لنفسه ، فهو رجل ويتحمل أكثر منها ، وفى يقينه أنه ما كان ليستسلم للمرض قط ، لو كان بدلاً منها ، كان سيأتى إليها مهما إشتد عليه التعب ، وكان سيأخذ منها المدد والقوة حين يراها ، فقد كان يؤمن بأن قوة الإنسان تكمن فى روحه وليس جسده ، قوته الروحية تهزم كل جبار حتى المرض ، فالمريض يستقبله الطبيب مبتسماً متفائلاً ، يطمئنه ويعده بسرعة الشفاء ، فيخرج المريض من عند الطبيب متعافياً يمشى على قدميه ، وقد غادره المرض ، فكيف بها هى ، إن كان هو المريض وكانت هى طبيبته ؟

ولكن ماذا يفعل الآن ؟ لقد أبى أن يغادر المكان ، وظل جالساً يحدث نفسه وتحدثه ، ويداعبه خياله ، لو أنها قد حضرت ما كان هذا حاله قط . . مرت الساعات ، وإنفض الناس من حوله وهو جالس وحده ، نظر إلى ساعته وجد أن موعد القطار قد حان ، إنه آخر قطار يمر على بلدته الليلة ، بعده لن يجد قطاراً آخر يقله ، نهض واقفاً وبدأ يسير بخطوات بطيئة ، شعر فجأة أن قدميه لا تقويان على حمله ، أحس بالقشعريرة تسرى فى بدنه ، تحامل على نفسه حتى وصل إلى محطة القطار ، لحق بالقطار قبل أن يتحرك ، وإنطلق به القطار إلى بلدته ، ولدى نزوله من القطار ، شاهده أحد أصدقائه وملامح التعب تبدو عليه ، فأوصله إلى البيت .

وفجأة إرتفعت درجة حرارة جسمه إرتفاعاً شديداً ، وبدأت تظهر عليه علامات المرض ، أصابته نزلة برد شديدة ، إضطر ته إلى ملازمة الفراش ، وقضى ليلته يتألم من شدة المرض ، ولم يذق طعم النوم . . وفى الصباح رن جرس هاتفه الجوال ، تحامل على نفسه وأمسك بالهاتف ، لقد كانت هى التى تتصل ، سألها عن حالها ، فأجابته أنها بخير ، وأنها قد شُفيت عقب مكالمته لها بالأمس بوقت قصير ، وأنها تحدثه الآن من مقر عملها ، فقد ذهبت إلى العمل ، حمد الله على سلامتها ولم يخبرها بمرضه ، وأغلق الهاتف ووضعه إلى جواره . . .
وعندئذ . . تذكر على الفور أنه حين كان جالساً فى الحديقة بعد أن علم بمرضها  ، دعا الله أن يشفيها وأن ينتقل المرض منها إليه . . . فإبتسم وهو طريح الفراش ، يتوجع من الألم ، وهز رأسه قليلاً وهو يتعجب ويقول : أبهذه السرعة تستجيب السماء لدعاء المحبين ؟
وأخذ يردد بصوت ضعيف وكأنه يخاطبها . . . سَلِمتِ أيتها الغالية من كل سوء ، وسَلِمَ لأجلك كل البشر ! !
                                                                  وإلى مقال آخر إن شاء الله .


الاثنين، 22 أكتوبر 2012

و غابت من جديد . . . يا لها من عنيدة ومتمردة ! !


وغابت من جديد . . . يا لها من عنيدة ومتمردة ! !
----------------------------------------------
هو . . . من ذلك النوع من الرجال ، الهادئ العاقل الرزين ، يؤمن بأن قوة الرجل فى عقله وفكره ، وليست فى جسده وقوة بطشه ، فكم من الرجال خسروا الكثير من معارك الحياة ، لأن لهم أجسام البغال وعقول العصافير . . أما المرأة عنده ، فتكمن قوتها فى قلبها ومكنونات صدرها ، قوتها ناعمة ، ولكنها فى ذات الوقت قاطعة وباترة وماضية . . ويحفظ للمرأة قدرها ، ويدرى كل ما لها وما عليها ، هى فى عقله وفكره ، نصف الحياة بأسرها ، وليست نصف المجتمع فقط ، ذلك التعبير الذى حصرها فى النطاق الأسرى والإجتماعى فقط ، إنها نصف الحياة بكل ما فيها ، فى كل خلق الله سبحانه نجد الذكر والأنثى ، وعلى مستوى الحياة الإنسانية نجد الرجل والمرأة . . المرأة نصف الحياة ، بسمائها وأرضها ، ومائها وهوائها ، قديمها وحديثها ، حاضرها ومستقبلها ، شريكة فى كل شئ ، بقلبها وحنانها وعطفها وحنوها تحتوى الجميع ، ومن رحمها خرج كل رجال ونساء العالم . . . تلك هى المرأة عنده .
أما هى . . فكانت صنفاً من النساء ، لها ذكاء فطرى حاد ، ودهاء أنثوى تلقائى ، أجمل خصالها العناد والتمرد ، العناد فى مواجهة كل شئ ، والتمرد على كل مألوف فى الحياة . . هكذا كانت حقيقتها التى لم يكن يدركها ، حين غابت عنه فى المرة الأولى ، وإبتعدت دون أن يدرى عنها شيئاً ، ودون أن تدرك ما يحدثه غيابها فيه من أثر ، كان معها عذرها فى المرة الأولى ، فلم تكن تدرى أنه عاش أيام غيابها  بكل جوارحه ، عا ش القلق عليها والخوف من أجلها ، عانى من الشوق إليها واللهفة ، قضى النهار ليلاً والليل نهاراً ، بعيداً عنها إنعدم لديه الإحساس بالزمن ، مرت الثوانى عليه وكأنها ساعات ، بدا له اليوم وكأنه عام ، ترقب إشراقة شمسها عشرات المرات . . إنتظرها طويلاً طويلاً حتى أطلت عليه بوجهها البرئ بعد عدة أيام ، نسى ما كان فيه من الهم والغم ، ومن التشتت والتفتت ، لملم أجزاءه التى تبعثرت فى كل الأرجاء بحثاً عنها ، وحمد الله على سلامتها ، عاتبها على الغياب ولم يكن يملك أكثر من العتاب ، لقد صارت جزءاً منه ولا يملك لها عقاباً ، كل كلمة تخرج من شفتيه تؤلمها سوف تؤلمه ، حتى نظرات عينيه إليها ما إستطاع أن يبدلها إلا بنظرات عتاب .
أخبرها بما كان من أمر غيابها ، أخبرها بأنها أصبحت أهم ما فى حياته ، صارت توأم عقله وفكره ، وعنده عقل الرجل وفكره هما أقصر الطرق لمن يريد الإقتراب منه ، أخبرها أنها ما عادت كما كانت بالأمس القريب ، لا يأبه لها ولا يهتم لأمرها ، بل تبدل الحال وتغير ما كان ، أخبرها أنه ما عاد يقدر على غيابها وإبتعادها بعيداً عنه ، وأن كل شئ غاب معها ساعة أن غابت ، حتى الشمس غابت معها ولم تعد تشرق ، أخبرها بأنها صارت بالنسبة إليه هى السلوى التى تُذهِب عنه الهم والحَزَن ،وهى النجوى فى جوف الليل ، وهى الغنوة فى ساعة السمر ، وهى الأنشودة وقت اللهو والمرح . . أخبرها بكل شئ ، ولم يدع شيئاً بداخله لم يخبرها عنه ، كان يأمل أن تعى كم هى عنده غالية فلا تفعلها ثانية ، أراد أن يزيل الغموض عن حقيقة مشاعره تجاهها ، وواقع منزلتها فى صدره وقلبه . . هدأت نفسه وإرتاح باله حين أخبرها ، رجاها ألا تغيب عنه مرة أخرى ، وألا تدعه يعانى لوعة فراقها وألم إبتعادها عنه ، رجاها ألا تفعل كل هذا به . . وعدته ألا تفعل ثانية ما فعلته ، وألا تغيب عنه كما غابت ، وألا تأخذ الدنيا بأسرها معها كما أخذت ، وألا تتركه وحيداً كما تركته من قبل . . صّدق وعودها ، وما كان بيده سوى أن يصدق ، إنها ملكت عقله وفكره ، إذن فقد ملكت بيدها كل شئ ، وما عاد بيده شئ .
أيام قليلة مضت ، ثم عادت للإختفاء مرة أخرى ، غابت عنه ولم تلق له بالاً ، حنثت فى كل وعودها له ، نسيت ما قالته من قبل . .لا. . هى لم تنس ، بل هو الذى نسى أنها قالت ذات مرة : أنا عنيدة ومتمردة . .  أم أنه تناسى ما قالته ؟ كى يوهم نفسه بأنها لن تحنث فى وعودها ، وأنها ما عادت تجعله يتألم لفراقها ، وأنها ما عادت تتركه وحيداً كما تركته من قبل ، وأنها ما عادت تغيب عنه وتأخذ معها الدنيا بأسرها . . وها هى عادت لتغيب من جديد ، ولم تلتفت قط لوعودها التى قطعتها على نفسها . . سيطر عليه عنادها وتمردها  . . وتركته يعانى من هذا العناد وذاك التمرد . . فيا لها من فتاة عنيدة ومتمردة ! ! !                   وإلى مقال آخر إن شاء الله .

الأحد، 21 أكتوبر 2012

حديث العذراء والحب والقلم ! !


حديث العذراء والحب والقلم ! !
----------------------------- 
ذات مساء . . أمسكت بالقلم ، وقررت أن تكتب إليه ، ما عادت تقدر على الصمت ، وما عاد النوم يداعب جفونها الجميلة بالليل ، لقد إقتحم حياتها فجأة وبدون أن تدرى ، فى كل مرة كانت تحكم إغلاق باب قلبها ونوافذه ، ماذا حدث هذه المرة ؟ إنها أول مرة تترك إحدى النوافذ مفتوحة ولم تغلقها ، أكان متربصاً بها فى إنتظار هذه اللحظة ؟ أم أنها الصدفة المحضة ؟ أم أنه القضاء القدر ؟ أم أنه . . .  ؟ أم أنه . . . ؟ أم أنه . . .  ؟ تساؤلات كثيرة تطارد بعضها البعض ، لم يعد عقلها قادر على أن يجيب عليها جميعها ، الحيرة تتملكها كل يوم وليلة ، كيف سمحت بأن يتسرب إلى قلبها وعقلها بهذه السرعة ؟ لقد تغير وتبدل كل شئ فى حياتها ، وهى التى كانت عنيدة وصلبة ومتمردة على كل شئ فى الحياة ! ! 
هذه المرة ، شخص ما تسلل إلى داخلها ، إخترق صدرها ، ونفذ إلى قلبها ، فوجد قصراً واسعاً فسيحاً لم يسكنه أحد قط ، كل شئ فيه كان معداً له وحده ، حوائطه ، ستائره ، فرائشه ، تماثيله وصوره وتحفه ، حتى بستان القصر ، إستقبله بالورود والزهور . . إنه الوافد الجديد للقصر ، لا . . لا . . بل أنه الساكن الوحيد لهذا القصر ، لقد دبت الحياة لأول مرة فى قصر قلبها ، إمتدت  يده لتفتح كل النوافذ ، ودخل نسيم الحب إلى كل أرجاء القصر ، تجدد هواءه ، وتطايرت ستائره ، حتى الورود والزهور فى البستان تمايلت وتبخترت ! !
أمسكت بالقلم وكتبت كل هذا ، طاوعها القلم ولم يعاندها ، وكيف له أن يعاندها وهو قلمها الذى يحبها ويفرح من أجلها ؟ ما عاندها قط من قبل ، ولن يعاندها هذه المرة بالذات ، أخيراً كتبت به إلى الحبيب ، بعد أن خط لها طويلاً فى أمور كثيرة لا تخصها وحدها ،أمور يكتب فيها كل الناس لعامة الناس ، أما هذه المرة فقد آن الآوان كى تكتب لخاصة الناس ، إلى الحبيب ، إلى ساكن القصر الوحيد . . . أنهت الرسالة ، وألقت عليها قطرات من عطرها الجميل ، ووضعتها فى مظروف أنيق ، كتبت عليه إسماً / حبيبى الوحيد ، وخطت عليه عنواناً / إلى ساكن القصر . 

وفجأة . . إنتابها شعور غريب ، إمتدت يدها مرة أخرى إلى قلمها ، وبدأت تناجيه ، ودار بينهما حديث طويل :
سألت القلم : ما هذا الذى فعلت أيها القلم ؟
قال القلم : أنا لم أفعل شيئاً . . أنتِ التى فعلتِ .
قالت : ولم طاوعتنى ولم تسقط من يدى ؟
قال القلم : ما كنت لأستطيع أن أفعل ذلك ، وحتى لو إستطعت ما كنت لأريد ، وحتى لو أردت ما    كنت سأستريح ! !
قالت : لماذا ، وما شأنك أنت بى ؟
قال القلم : شأنى أن قلمك الوحيد ، أتذكرين ؟ منذ سنين وأنتِ تخطين بى ما تريدين ، خطت لكِ كل شئ وعن أى شئ ، وكنت أطاوعك ، إلا شئ واحد يخصك أنتِ ما خطته لكِ ، كنت أعد الأيام عداً فى إنتظار هذه اللحظة التاريخية وهذا اليوم ، وها هى جاءت بعد أن هَرمتُ ، فما كان لى أن أضيعها أبداً ! !
قالت : أى لحظة تقصد ؟ وأى يوم ؟
قال القلم : لحظة أن يتسلل الحب إلى قلبك الطيب الجميل ، ويوم أن يسكن هذا القصر إنسان وحيد
قالت : وماذا أفعل فى كبريائى وعزة نفسى ؟ ألست تقول أنك تعرفنى منذ سنين ؟ إذن أجبنى ، أين عنادى وغرورى ؟ أين حصونى وقلاعى ؟ أين أسوارى العالية ؟ أين جيشى وحُراسى ؟ أين مقاومتى ودفاعى ؟ أين ذهب كل هؤلاء وتركونى وحيدة أعانى وأتألم هكذا ؟ كيف سمحوا له أن يحتل قلبى ويسكن قصرى ، ويداعب ورودى وزهورى ، ويلهو و يمرح فى بستانى ؟ أين كانوا؟
قال القلم : كلهم ذهبوا بعيداً ، بعد أن فتحوا له الأبواب ، لم يعترض أحد طريقه ، فرحوا جميعهم لمجيئه ، إنتظروه طويلاً مثلما إنتظرته أنا ، تعبوا من طول السنين وحراسة قصر خاوى لا يسكنه إنسان ، واليوم ما عاد القصر خاوياً ، وما عاد  يحتاج إلى حراس .                         قالت : ألم تر كيف إقتحم حياتى فى لحظات ؟ ألم تر كيف تسلل إلى قصرى بدون إستئذان ؟  لقد تغير وتبدل كل شئ فى حياتى . . ولكنك حتى الآن تراوغنى ولم تجب على سؤالى ، ماذا أفعل بكبريائى وعزة نفسى ؟ ولماذا بوحت بمكنونات صدرى بهذه السرعة ؟ وقبل أن يبوح هو ! ! 
قال القلم : لا . . لقد نسيتِ أنه باح بمكنونات صدره من قبلك عندما قال . . . وقال. . . وقال . ..
قالت : وما أدراك أنه كان يقصد أنه يحبنى أنا ؟
قال القلم : أخبرنى قلمه ، فأنا وقلمه صديقين حميمين ، منذ سنين ، ولا يخفى كلانا عن الآخرشيئاً
قالت : تباً لكم من أقلام ، تتركوننا نبوح بأسرارنا أمامكم ، ثم تفضحوننا ؟ بئس الأقلام أنتم .
قال القلم : نحن لا نفعل شيئاً ، نحن نكتب ما تملونه علينا بالضبط ، لا نزيد كلمة ولا ننقص حرفاً
قالت : وما ذا بعد أيها القلم اللئيم ؟
قال القلم : لا شئ . . أكملى ما بدأتِ ، إرسلى إليه الرسالة ، إطلقى سراح مشاعرك ، إطلقى لها العنا ، لا تتركيها حبيسة هكذا داخل أدراج نفسك ، لا تدعيها تئن فى أعماقك ، صوت أنينها لن يدعكِ تنامين ليلاِ ، ولا تهدأين نهاراً ، لا تكونى قاسية عليه وعلى نفسك ، فتقتلين حباً وليداً بيديكِ ، ثم تحفرى له قبراً فى باحة قصرك وتدفينه ، لن تقبله باحة القصر ، ولن تقبله كل بقاع الأرض , وسوف تعيشين بذنبه طول العمر ، إخبريه ، صارحيه ، إشركيه معك ، ما بداخلك ليس ملكاً لكِ وحدك ، إنه شريك لكِ فيه ، إن الحب حبه ، والقلب قلبه ، والقصر قصره ،ولم يعد ملكك وحدك .
قالت : سوف أحاول قدر إستطاعتى أن أخرجه من القصر !
قال القلم : صدقينى . . لن تستطيعى ، لقد سكن القصر ، وتنسم هواه ، نام فى فرائشه ، وصال وجال فى جنباته ، ولعب ومرح فى بستانه ، إنه الآن يعيش فى الجنة ، ومن منكم أيها البشر يختار أن يخرج من الجنة ؟ لقد فعلها أبوكم آدم منذ زمن سحيق ، وخرج منها مُرغماً بقوة العلى القدير ، خالقكم وخالقنا وخالق هذا الكون أجمعين .
قالت : صه . . كفى . . أنت لم تعد قلمى ، لقد خونتنى مثل حراس قصرى ، أنت تدعوننى إلى الهلاك ، كيف لى أن أطاوعك؟ لا . . لا. . لن أطاوعك ، ولن أطاوع قلبى أبداً .

وقفت فجأة . . وإمتدت يدها إلى الرسالة ، فأمسكت بها بعد أن ألقت بالقلم ، وجرت بها مسرعة نحو الباب ، وهى تردد بصوت مسموع : لا . . لن أرسلها إليه ، سوف أمزقها ، لن أبوح له بما فى داخلى ، لن أسلمه إرادتى ، ولن أدعه يسكن قصرى بعد اليوم ، لن أدعه ، لن أدعه ! !
فتحت الباب وإنطلقت مسرعة كى تمزق الرسالة وتلقيها فى صندوق القمامة بجوار البيت  ليأخذها جامع القمامة . .  ولكنها . . وبدون أن تدرى إتجهت مسرعة نحو صندوق البريد القريب من البيت عند ناصية الشارع ، وألقت بالرسالة داخل الصنوق وهى لا تعى ما فعلت ، وإستدارت عائدة إلى بيتها ، وهى تردد : لقد تخلصت منها ، لقد مزقتها ، لن أمكنه منى أبداً ، لن يستولى علىّ ولن أملكه إرادتى ، ولن أدعه يسكن قصرى بعد اليوم . . ودخلت إلى غرفتها كى تلملم أوراقها التى تبعثرت ، وقعت عيناها على القلم ، فوجدته يضحك من أعماقه وهو سعيد مسرور . . فقالت له : ماذا بك أيها القلم اللعين ؟ لم تضحك هكذا ؟
فقال القلم : لا شئ . . ماذا فعلتِ بالرسالة ؟
قالت على الفور : لقد تخلصت منها إلى الأبد ! ولن أدعه يسكن قصرى بعد اليوم ! !
قال القلم وهو يضحك : وأين ألقيتها ؟
قالت : فى صندوق القمامة ، ليأخذها جامع القمامة ويحرقها .
قال القلم وهو يتعجب : وهل صندوق القمامة على ناصية الشارع أم بجوار البيت ؟
هنالك . . أفا قت لنفسها وعاد إليها وعيها . وتذكرت . أنها ما مزقت الرسالة  . وما تخلصت منها .  بل وضعتها بيدها فى صندوق البريد . وما صار بمقدورها أن تمنع وصولها إليه . لقد باحت له بكل شئ . وما عادت تخفى بداخلها شيئاً . . والأكثر من ذلك . . أنها ما عادت تستطيع أن تخرجه من قصرها بعد اليوم . .  وإلى مقال آخر إن شاء الله . ( إهداء إلى كل فتاة تقاوم الحب ).