الجمعة، 19 أكتوبر 2012

أمّر عذاب . . . . وأحلى عذاب ! !


أمّر عذاب . . . . وأحلى عذاب ! !
--------------------------------

جمعت بينهما الصدفة أمام شباك حجز تذاكر السفر بمحطة القطار بالقاهرة ، هو شاب مصرى فى منتصف الثلاثينات من العمر ، وهى فتاة فى منتصف العشرينات ، تبدو عليها ملامح الفتاة العربية العصرية ، ترتدى بنطلون جينز أسود وتيشرت أحمر وتضع على كتفيها كوفية عربية ، وتحمل على ظهرها حقيبة ملابس متوسطة الحجم ، لم يكن عدد المسافرين أمام شباك التذاكر كثيراً ، وفجأ أعلن موظف الحجز أن إستمارة الحجز إمتلأت وأنه ذاهب إلى مسئول الحركة بالمحطة ليأتى بأخرى خلال دقيقتين ، وكعادة الموظف المصرى ذهب وذهبت معه الدقائق ، فكانت فرصة للحوار بين الشاب المصرى والفتاة العربية ، الذى بادرها بالسؤال :

قال : هل أنتِ عربية ؟
قالت : لم قلت ذلك ؟
قال : لأن الملامح العربية تبدو عليكِ . . قسمات وجهك توشى بذلك .
قالت : نعم . . فعلاً أنا فلسطينية من الضفة الغربية ، فى زيارة لمصر لأحد أقاربى وأصدقائى .
قال : أهلاً بك فى بلدك الثانى مصر ، وبين أهلك وأشقائك المصريين .
قالت : مصر ليست وطنى الثانى ، ولكنها وطن كل العرب ، وطنهم الأول و الكبير .
قال ( وهو يبتسم إبتسامة خفيفة ) : ملابسك توحى لى بمعانى ورموز وأشياء ، هل أنا مُحق ؟
قالت ( والأسى يعلو وجهها ) : نعم أنت على حق . . البنطلون الأسود يرمز إلى الإحتلال الذى نعانى منه – نحن الفلسطينيون –  صباح ومساء ، والتيشرت الأحمر يرمز إلى دماء الشباب الفلسطينى التى تسيل كل يوم ثمناً للمقاومة ، أما الكوفية فهى كوفية أبو عمار، رمزالنضال والكفاح ، عاش أبو عمار وهو يحلم بإقامة الدولة الفلسطينية  ، وظل الحلم يراوده حتى مات مسموماً على يد الصهاينة قبل أن يتحقق الحلم .
قال ( متسائلاً ) : هل لى أن أسألكِ عن إسمك ؟
قالت ( على الفور ) : ولم لا ؟ إسمى . . . عذاب !
قال ( مُردداً ) : عذاب . . عذاب . . إنه إسم جميل ، ولكنه يثير الشجون ، ويعبرعن ألم ومعاناة !
قالت ( مقاطعة ) : وهل هناك ألم ومعاناة أشد وطأة من ألم الإحتلال ، ومعناة إنكسارالإرادة القهرى ، وإهدار العزة والكرامة كل يوم على يد مستعمرين وقتلة و سفاحين ومنتهكى أعراض ؟
قال ( مواسياً ) : ولكن . . ألا يولد من رحم المعاناة والألم ثورة الشعوب على الظلم والقهر والإستبداد ؟ . . أنظرى إلى ثورات الربيع العربى فى البلدان العربية ، ألم تكن ضد مستعمرين وقتلة وسفاحين ولصوص ، يحتلون الأوطان ويقهرون الشعوب ، وهم من جلدة بنى أوطانهم ؟
قالت ( وقد بدا عليها الإقتناع ) : نعم . . معك كل الحق ، الحكام العرب مثل المستعمرين تماماً !
قال : إذن نحن كلنا شركاء فى المعاناة والألم ، فلا تحزنى . . لن تطول المعاناة ولن يطول الألم .
قالت : لقد إعتاد شعبنا على الحزن ، ولم يعد فى حياتنا سواه ، لقد نسينا الفرح وصار الحزن والهم  عنوان حياتنا ، ما عدنا نعانى منه ، وما عاد غريباً عنا ، فقد أصبح جزءً منا ! ! ولكن لم تخبرنى ، ما إسمك أنت ؟
قال على الفور وكأنه كان يتمنى السؤال : إسمى فريد  . . . .
قالت ( مُعلقة ) : فريد . . إسم جميل ، ما أجمل أن يكون الإنسان فريداً فى كل شئ ، الفريد هو الذى لا يكون مثله آخر مثل الوحيد والنادر ، أحب وأعشق الأسماء التى لها معانى جميلة .
قال : إسمك أيضاً جميل ، وله معنى أعشقه .
قالت ( وهى تتعجب ) : وما الجميل فى العذاب ؟  العذاب يعنى الشقاء والمعاناة فى كل شئ .
قال : لا  . . لا . . هناك عذاب ، وهناك عذاب ! !
قالت ( متسائلة ) : وهل العذاب ألوان وأنواع ؟
قال : نعم . . هناك أمّر عذاب  ، وأحلى عذاب .
قالت ( وتبدو على وجهها علامات الأسى ) : وهل هناك  عذاب أمّر مما نحن فيه ؟
قال ( مستنكراً ) : لا . . ولكن هناك عذاب أحلى مما أنتم فيه .
قالت : وما هو يا فليسوف ؟ هات ما عندك ! !
قال (ضاحكاً ) : ألم تسمعى أم كلثوم – قيثارة الشرق – وهى تتمايل و تشدو بصوتها الجميل " أمّر عذاب ، وأحلى عذاب ، عذاب الحب للأحباب " .
قالت ( وهى تضحك بصوت عالى وتتمايل ) : ألم أقل لك أنك فريد ووحيد ونادر ؟
قال : لقد سعدت من نفسى لأننى جعلتك تضحكين من أعماق قلبك وتسعدين .
قالت : يبدو أنك من ذلك النوع من البشر الذين يمكنهم إسعاد الآخرين .
قال ( وهو واثق من نفسه ) : وأستطيع أن أبكيهم أيضاً ، فأنا كاتب ذو خيال وشجون وقلمى متمكن . . .

وعندئذ . . سمع الإثنان صوت موظف شباك التذاكر يصيح : الحجز يا حضرات ! !
وعلى الفور إمتدت يدها داخل الشباك لتأخذ تذكرتها وإستدارت لتمضى ، و تسلم هو الآخر تذكرته وإستدار ، ليجدها قد مضت وسبقته بخطوات ، فأسرع الخطى ليلحق بها ، وصار خلفها وهى تسير ببطء وتتمايل بهدوء ، وتهز رأسها فى سعادة ونشوة ، سمعها وهى تشدو مكررة ما قاله منذ دقائق " أمّر عذاب . . وأحلى عذاب . . عذاب الحب للأحباب " .
هنالك أبطأ الخطى  ، ليتركها تمضى فى طريقها  ، وهو راض كل الرضا فى أعماق نفسه . . . لقد نجح  – وسط كل هذه المعاناة والألم الذى يسكنها – أن يجعلها تغنى وتشدو . .
                               
                                                                         وإلى مقال آخر إن شاء الله .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق