أمّر
عذاب . . . . وأحلى عذاب ! !
--------------------------------
جمعت
بينهما الصدفة أمام شباك حجز تذاكر السفر بمحطة القطار بالقاهرة ، هو شاب مصرى فى
منتصف الثلاثينات من العمر ، وهى فتاة فى منتصف العشرينات ، تبدو عليها ملامح
الفتاة العربية العصرية ، ترتدى بنطلون جينز أسود وتيشرت أحمر وتضع على كتفيها
كوفية عربية ، وتحمل على ظهرها حقيبة ملابس متوسطة الحجم ، لم يكن عدد المسافرين
أمام شباك التذاكر كثيراً ، وفجأ أعلن موظف الحجز أن إستمارة الحجز إمتلأت وأنه
ذاهب إلى مسئول الحركة بالمحطة ليأتى بأخرى خلال دقيقتين ، وكعادة الموظف المصرى
ذهب وذهبت معه الدقائق ، فكانت فرصة للحوار بين الشاب المصرى والفتاة العربية ،
الذى بادرها بالسؤال :
قال : هل
أنتِ عربية ؟
قالت : لم
قلت ذلك ؟
قال : لأن
الملامح العربية تبدو عليكِ . . قسمات وجهك توشى بذلك .
قالت : نعم
. . فعلاً أنا فلسطينية من الضفة الغربية ، فى زيارة لمصر لأحد أقاربى وأصدقائى .
قال :
أهلاً بك فى بلدك الثانى مصر ، وبين أهلك وأشقائك المصريين .
قالت : مصر
ليست وطنى الثانى ، ولكنها وطن كل العرب ، وطنهم الأول و الكبير .
قال ( وهو
يبتسم إبتسامة خفيفة ) : ملابسك توحى لى بمعانى ورموز وأشياء ، هل أنا مُحق ؟
قالت (
والأسى يعلو وجهها ) : نعم أنت على حق . . البنطلون الأسود يرمز إلى الإحتلال الذى
نعانى منه – نحن الفلسطينيون – صباح ومساء
، والتيشرت الأحمر يرمز إلى دماء الشباب الفلسطينى التى تسيل كل يوم ثمناً
للمقاومة ، أما الكوفية فهى كوفية أبو عمار، رمزالنضال والكفاح ، عاش أبو عمار وهو
يحلم بإقامة الدولة الفلسطينية ، وظل
الحلم يراوده حتى مات مسموماً على يد الصهاينة قبل أن يتحقق الحلم .
قال (
متسائلاً ) : هل لى أن أسألكِ عن إسمك ؟
قالت ( على
الفور ) : ولم لا ؟ إسمى . . . عذاب !
قال (
مُردداً ) : عذاب . . عذاب . . إنه إسم جميل ، ولكنه يثير الشجون ، ويعبرعن ألم
ومعاناة !
قالت (
مقاطعة ) : وهل هناك ألم ومعاناة أشد وطأة من ألم الإحتلال ، ومعناة إنكسارالإرادة
القهرى ، وإهدار العزة والكرامة كل يوم على يد مستعمرين وقتلة و سفاحين ومنتهكى أعراض
؟
قال (
مواسياً ) : ولكن . . ألا يولد من رحم المعاناة والألم ثورة الشعوب على الظلم
والقهر والإستبداد ؟ . . أنظرى إلى ثورات الربيع العربى فى البلدان العربية ، ألم
تكن ضد مستعمرين وقتلة وسفاحين ولصوص ، يحتلون الأوطان ويقهرون الشعوب ، وهم من
جلدة بنى أوطانهم ؟
قالت ( وقد
بدا عليها الإقتناع ) : نعم . . معك كل الحق ، الحكام العرب مثل المستعمرين تماماً
!
قال : إذن
نحن كلنا شركاء فى المعاناة والألم ، فلا تحزنى . . لن تطول المعاناة ولن يطول
الألم .
قالت : لقد
إعتاد شعبنا على الحزن ، ولم يعد فى حياتنا سواه ، لقد نسينا الفرح وصار الحزن
والهم عنوان حياتنا ، ما عدنا نعانى منه ،
وما عاد غريباً عنا ، فقد أصبح جزءً منا ! ! ولكن لم تخبرنى ، ما إسمك أنت ؟
قال على
الفور وكأنه كان يتمنى السؤال : إسمى فريد
. . . .
قالت (
مُعلقة ) : فريد . . إسم جميل ، ما أجمل أن يكون الإنسان فريداً فى كل شئ ، الفريد
هو الذى لا يكون مثله آخر مثل الوحيد والنادر ، أحب وأعشق الأسماء التى لها معانى
جميلة .
قال : إسمك
أيضاً جميل ، وله معنى أعشقه .
قالت ( وهى
تتعجب ) : وما الجميل فى العذاب ؟ العذاب
يعنى الشقاء والمعاناة فى كل شئ .
قال :
لا . . لا . . هناك عذاب ، وهناك عذاب ! !
قالت (
متسائلة ) : وهل العذاب ألوان وأنواع ؟
قال : نعم
. . هناك أمّر عذاب ، وأحلى عذاب .
قالت (
وتبدو على وجهها علامات الأسى ) : وهل هناك
عذاب أمّر مما نحن فيه ؟
قال (
مستنكراً ) : لا . . ولكن هناك عذاب أحلى مما أنتم فيه .
قالت : وما
هو يا فليسوف ؟ هات ما عندك ! !
قال
(ضاحكاً ) : ألم تسمعى أم كلثوم – قيثارة الشرق – وهى تتمايل و تشدو بصوتها الجميل
" أمّر عذاب ، وأحلى عذاب ، عذاب الحب للأحباب " .
قالت ( وهى
تضحك بصوت عالى وتتمايل ) : ألم أقل لك أنك فريد ووحيد ونادر ؟
قال : لقد
سعدت من نفسى لأننى جعلتك تضحكين من أعماق قلبك وتسعدين .
قالت :
يبدو أنك من ذلك النوع من البشر الذين يمكنهم إسعاد الآخرين .
قال ( وهو
واثق من نفسه ) : وأستطيع أن أبكيهم أيضاً ، فأنا كاتب ذو خيال وشجون وقلمى متمكن
. . .
وعندئذ . .
سمع الإثنان صوت موظف شباك التذاكر يصيح : الحجز يا حضرات ! !
وعلى الفور
إمتدت يدها داخل الشباك لتأخذ تذكرتها وإستدارت لتمضى ، و تسلم هو الآخر تذكرته
وإستدار ، ليجدها قد مضت وسبقته بخطوات ، فأسرع الخطى ليلحق بها ، وصار خلفها وهى
تسير ببطء وتتمايل بهدوء ، وتهز رأسها فى سعادة ونشوة ، سمعها وهى تشدو مكررة ما
قاله منذ دقائق " أمّر عذاب . . وأحلى عذاب . . عذاب الحب للأحباب " .
هنالك أبطأ
الخطى ، ليتركها تمضى فى طريقها ، وهو راض كل الرضا فى أعماق نفسه . . . لقد
نجح – وسط كل هذه المعاناة والألم الذى
يسكنها – أن يجعلها تغنى وتشدو . .
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق