عاشت لهما
ومن أجلهما . . . فوجب لها الشكر .
-------------------------------------------
بالأمس طالعت
مقالاً رائعاً للكا تبة المتميزة أمل الحياة بعنوان" صلابة النساء " ،
تحدثت فيه عن صلابة المرأة وقوة عزيمتها عند الشدائد والأزمات ، وضربت لنا مثلاً
بالخنساء التى فقدت أولادها الأربعة فى الجهاد ، وبالسيدة حفصة زوجة النبى محمد
صلى الله عليه وسلم ، ومن فرط إعجابى بما كتبت عزيزتنا أمل الحياة قمت بالتعليق
على مقالها الرائع ، ولكنه كان تعليقاً موجزاً ، وإستأذنتها أن أكمل ما بدأته ،
وأن أكتب مقالاً أعطى فيه كثيراً من النساء حقهن من المآثر ، كما سبق وأن ذممت
بعضهن فى مقال لى بعنوان " المرأة الحمقاء . . أسوأ أنواع النساء " ،
وأردت أن أقص فى مقالى هذا قصة إمرأة من النساء ، عايشت أحداثها ووقائعها بنفسى
وشاهدتها رؤى العين ، وهى إمرأة تعد – بلا شك – نموذجاً فريداً لنساء كثيرات ، أقل
ما يستحققن منا هو الشكر.
لقد عرفتها
زوجة وأم توفى عنها زوجها ورحل فى منتصف الستينات من القرن الماضى ، وترك معها من
الصغار ولدين ، أحدهما سبع سنوات والآخر خمس سنوات ، ولم يترك لهم إلا معاشاً
ضئيلاً من جهة عمله تتقاضاه كل شهر وشقة بالإيجار ، وكانت ربة منزل لاتعمل ، وكان
معها مبلغاً صغيراً من المال ورثته عن أبيها ، وبعد أن دق الموت بابها وأخذ منها
الزوج وترك لها الصغيرين ، شعرت فجأة أن عبئاً ثقيلاً قد أ لقى على ظهرها دفعة
واحدة ، والطريق لا يزال أمامها طويلاً طويلاً ، فالأولاد صغار والإمكانيات ضعيفة
والحياة شاقة وهى لم تخرج من بيتها للعمل من قبل ، وحتى لو خرجت للعمل فمن سوف
يرعى الصغيرين ، وبعد تفكير طويل كان قرارها الصعب ألا تتركهما وحدهما وتخرج للعمل
.
ومن هذه
اللحظة بدأت مرحلة جديدة فى مشوار حياتها ، ولكنها كانت المرحلة الأشق والأصعب ،
وكعادة الأم حرمت نفسها من كل شئ فى الحياة حتى الضرورى من الأشياء ، فى سبيل أن
توفر لصغيريها الضروريات جداً من المسكن والمأكل والملبس والتعليم وكفى ، ولم يكن
بيدها أو إستطاعتها أن تفعل أكثر من ذلك ، بل أن ما بيدها لم يكن يكفى حتى تلك
الأمور الأربعة ، ولكنها صارت هدفها وحلم حياتها ليل نهار ، كيف تأويهم ؟ وكيف
تطعمهم ؟ وكيف تستر أجسادهم ؟ وكيف تحسن تربيتهم وتعليمهم ؟ ، صحيح أن تكاليف
المعيشة آنذاك كانت قليلة ،ولكن الإمكانيات والقدرات كانت أقل وأضعف .
وظلت الأم
الحنون صامدة فى مواجهة الزمن ، واقفة على قدميها ، قوية صلبة عنيدة ، تكافح
وتناضل وتكابد مصاعب الحياة التى لم تهزمها قط ، وكانت تزداد قوة وصلابة كلما إشتد
عليها الزمن وتكالبت عليها الشدائد والهموم والأزمات ، كانت لها قوة ألف رجل ، لم
تنحنى أبداً ولم تركع ولم تنكسر ، لم تعرف اليأس ولا القنوط ولم تنكفئ يوماً ، كنت
أتعجب من قوتها وصلابتها ، ومن حكمتها وقوة عقلها ، ومن صبرها وقوة تحملها ، كانت
إستثناءً من النساء لا يُقاس عليه .
مرت السُنون
تلو السُنون ، وترعرع الصغيران وتدرجا فى مراحل التعليم المختلفة حتى نال كل منهما
الشهادة الجامعية ، وبدأ كلاهما يشق طريقه فى الحياة . . ولكن الأم كبرت ومضى بها قطار العمر دون أن تدرى
وقاربت السبعين عاماً ، وتسلل المرض والضعف والوهن إلى جسدها الذى عانى الكثير
والكثير ، فاعتل القلب وتوقف نصفه عن النبض وضخ الدماء ، وتألمت العظام وما عادت
تقوى على الوقوف وهى التى وقفت طويلاً فى وجه الزمن ، وضعف البصر وإرتفع ضغط الدم
، وتسربت إليها أمراض الشيخوخة وما عادت
تقوى على فعل شئ ، أى شئ ، أخيراً تمكن منها الزمن وهزمها ، ولزمت الفراش طيلة
خمسة عشر عاماً ، حتى فاجأتها جلطة فى الدماغ أنستها كل شئ إلا ولديها ، ظلت
تذكرهما حتى ماتت ، وكيف لا تذكرهما وقد أضاعت من أجلهما سنوات العمر، بخلت على
نفسها بكل شئ ولم تبخل عليهما بأى شئ تقدرعليه ، أعطتهما كل ما تملك من الحب
والعطف والحنان والعمر والصحة والمال القليل ، ولم تدخر لها شيئاً ، لم تعش يوماً
من أجل ذاتها ، بل عاشت لهما ومن أجلهما فوجب لها الشكر . . . وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق