و ظنت .
. . . . . أنه يكتب لها !
!
----------------------------------
كان باهر
يهوى القراءة منذ الصغر ، وكانت له مكتبة صغيرة عبارة عن عدة أرفف خشبية فى حجرته الضيقة ، كونها من مصروفه القليل
بشراء الكتب والقصص والروايات القديمة من إحدى المكتبات فى مدينته ، وكان فى مراحل
تعليمه المختلفة ، يهوى الذهاب إلى مكتبة المدرسة فى أوقات الفراغ ، ليقرأ ما تيسر
له من الكتب والقصص والروايات ، وإستمرعلى هذا النهج حتى بعد تخرجه من الجامعة، لم
يدع تخصصه بالعمل فى مجال القانون ، أن ينال من هواية القراءة التى كان تستولى على
جزء كبير من وقت فراغه ، وإستطاع أن يقتنى عدداً من الكتب يُقدر بالمئات – بخلاف
ما قرأه ولم يستحوذ عليه – خصص لها مكتبة أنيقة فى غرفة مكتبه الخاصة.
قرأ باهر
فى شتى المجالات ، ولم يكتفى بنوع واحد من القراءة ، قرأ فى السياسة كثيرأ ، إهتم
بفهم العالم من حوله ، كيف يفكر الساسة ، وكيف تُحكم الشعوب ، وكيف تُدار الدول ،
قرأ فى تاريخ معظم الشعوب ، العربية
والأوربية والأمريكية ، قرأ فى تاريخ الحروب والمعارك الكبرى بكافة تفصيلاتها
السياسية والعسكرية ، يوميات الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وحروب المنطقة
العربية بأسرها ، حتى آخر الحروب ( حرب الخليج الأولى والثانية ) مروراً بحرب
أكتوبر المجيدة بيومياتها وتفصيلا ت عملياتها العسكرية ، كان يقرأ وكأنه متخصص فى عالم السياسة والحروب . . قرأ فى الأد ب
العربى كثيراً وبعض من روايات الأدب الإنجليزى والفرنسى مترجماً فى جزء منه إلى
العربية ، فقد كان يُجيد الإنجليزية ، قرأ لكثير من الأدباء والشعراء ، وإحتقظ
ببعض قصصهم ودواوينهم فى مكتبته الخاصة ، قرأ لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين
والعقاد ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وغيرهم كثير ، وقرأ فى الشعر العربى
القديم والحديث لشعراء عظام ، أحب أشعار المتنبى وإبن العتاهية والنابغة الزبيانى
و جرير والفرزدق والخنساء ، ومن الشعراء فى العصر الحديث قرأ لأحمد شوقى ( أمير
الشعراء ) وحافظ إبراهيم ( شاعر النيل ) وأحمد رامى ( شاعر الشباب ) وأبو القاسم
الشابى ومحمود درويش وأمل دنقل وفاروق
جويدة ، وغيرهم من الشعراء المعاصرين . .
قرأ فى الأديان السماوية ، كثير من الكتب الإسلامية ، وقرأ الإنجيل والتوراة
كاملين . . قرأ فى الطب والهندسة والزراعة والإقتصاد والفلسفة وعلم النفس وعلوم
الإجتماع وإدارة الأعمال . . قرأ فى كل شئ ، لأنه يؤمن بأن الثقافة شئ والتعليم شئ
آخر ، وأن الثقافة هى" أن تعرف شئ من كل شئ ، لا أن تعرف كل شئ عن شئ واحد
فقط " ، فغالبية المتعلمين فى العالم العربى جهلاء جهلاء ، بسبب إنحطا ط
مستوى التعليم من ناحية ، ولأن العرب ما صاروا يهتموا إلا بالسخافات والتفاهات ،
وشبابهم – فى أغلبهم – أمسوا تافهين ، سخفاء ، سطحيين ، عقولهم خاوية تصفر فيها
الريح . . كثيراً ما تحاورت وتناقشت مع البعض منهم ، كنت أحزن وأتألم لحالهم ،
ولجهلهم ، ولصغر عقولهم ، وضيق أفقهم ، الحديث معهم أشبه بمن يحاول أن يقرأ جريدة
فى الطريق العام فى يوم عاصف شديد الرياح والأتربة ، قطعاً لن تثمر قراءته
شيئاً . .
وظل باهر
على هذا النهج فى حياته . . قارئاً ودارساً وفاحصاً ومحللاً لكل شئ من أصغره إلى
أكبره ، حتى بلغ من العمر الأربعين عاماً ، صارت لديه حصيلة لا بأس بها من المعرفة
والثقافة فى مجالات عديدة ومتنوعة ، وأدرك أن الوقت قد حان كى يُخرج كل حصيلة
معرفته وثقافته للآخرين ، ليشاركوه فيها ويستفيدون منها . . وبالفعل أرسل باهر لإحدى
المجلات الأسبوعية ، غير المتخصصة فى نوع واحد من المعرفة ، واسعة الإنتشار فى مصر
والبلاد العربية ، قبلت إدارة المجلة أن تنشر مقالاته بعد أن طلبت منه نماذج منها
للوقوف على مستوى وأسلوب الكتابة ، بعد حيرة وتردد فى أى المجالات يكتب ، فلديه
القدرة على الكتابة فى كل شئ وأى شئ ، ولكنه لابد أن يختار مجالين حسب ضوابط النشر
بالمجلة ، فإختار أن يكتب فى السياسة والأدب العربى . . وبدأت مقالاته فى الظهور
أسبوعياً ، بواقع مقالين أحدهما سياسى والآخر أدبى فى صورة مقال أو قصة قصيرة ,
وبدأ قراء المجلة من كافة البلدان العربية يتواصلون معه ويرسلون إليه تعليقاتهم
على مقالاته وقصصه ، وأسعده هذا الأمر كثيرا ً ، كان قراؤه من كافة الأعمار
والأجناس ، خاطب الشباب والكبار ، والنساء والفتيات ، وإزداد قراؤه يوماً بعد يوم
، وبصفة خاصة قراء المقالات الأدبية ، التى تنوع قراؤها بدرجة واضحة . . . وكان من
بينهم علياء . .
كانت علياء
فتاة تونسية ، فى منتصف العشرينات من عمرها ، وكانت عاطفية رقيقة وحالمة ، لها قلب
أبيض صافى شديد الصفاء والنقاء ، قرأت إحدى قصصه فأعجبتها ، وأرسلت إليه تعليقاً
أبدت فيه إعجابها بأفكاره المتنوعة وأسلوبه الرائع البديع ، تعددت المقالات والقصص
الأدبية التى تستهويها ، وتعددت معها خطابات علياء إليه ، أسعده كثيراً خطاباتها
وتعليقاتها ، وأحياناً كانت ترسل إليه بعضاً من خواطرها ليبدى رأيه فيها ، إعتبرها
بالنسبة إليه أخته الصغرى ، وكان يخاطبها بهذا الإسم دائماً . . أختى الصغرى /
علياء . ولكن يبدو أن كان لها رأى آخر . .
فجأة . . .
بدأت خطابات علياء إليه تأخذ منحى آخر ، وتحوى تساؤلات لم يكن يتوقعها ، سألته ذات
مرة بعد أن قرأت قصة من قصصه أعجبتها : هل كتبتها لى ومن أجلى ؟ ؟ ومرة أخرى أخبرته بأنها تتمنى لو كانت إحدى
بطلات قصصه الرائعة , وبدأت تلاحق مقالاته
وقصصه الأدبية تحديداً ، تقرأها ثم تعيش أحداثها وتتخيل أنها بطلة هذه القصة . .
صحيح أن أسلوب باهر كان ممتعاً ، سهلاً وبسيطاً ، راقياً فى كلماته ، أنيقاً فى
تعبيراته وصوره وتشبيهاته ، وكانت جميع قصصه لها مذاق خاص وعطرها من النوع الفواح
. .
لقد حاول
أن يوضح لها – عدة مرات – أنه لا يقصد أحداً بعينه فى كتاباته وقصصه الأدبية ، وأن
القصص الأدبية تقوم فى الأساس على وحى خيال القصاص أو الأديب ، مع إستعارة بعض
الأسماء أو الصفات ممن حوله فى ربوع الحياة ، ولطالما كتب يوسف السباعى وإحسان عبد
القدوس وحتى منى نور الدين ، رواياتهم الجميلة الرائعة الحالمة ، من وحى خيالاتهم
، وأغرقوا فى الرومانسية حتى كنا نغرق معهم فى بحور دموعنا ، وكانوا يحلقوا بنا فى
الخيال كيفما شاءوا ، ولكن عقلها رفض أن يستوعب ذلك ، وغلبتها عاطفتها الجميلة
الرقيقة الوديعة ، فسكت صوت العقل لديها ، وعزفت أوتار العاطفة والرومانسية مقطوعة
الهيام . . . . ولكن ! !
لم يكن هو
على إستعداد لأن يستمر الحال على هذا النحو ، إنه يكتب من وحى خياله الخصب ، وقد
وهبه الله - سبحانه وتعالى - القدرة على أن يتخيل كل شئ وأى شئ له علاقة بالمشاعر
الإنسانية ، ومكنونات الصدور، وسرائر النفوس ، وأعماق النساء ، وأغوارالوجدان
والكيان ، وأن يصوغ كل ذلك بأسلوبه الناعم ، الرائع المحكم ، تساعده مفرداته
وأدوات لغته وبلاغته ، فيحيل الحلم والخيال إلى واقع ملموس وحياة . . . وكان لابد من
وقفة ونقطة نظام ، لتحديد الأمور والأشياء ، بشكل قاطع وحاسم ، كما تعود هو فى
حياته ، وخاصة فى المشاعر الإنسانية .
لم تقبل هى
صراحته ، ولم ترض أن يوقظها من ذلك الحلم الذى أغرقت نفسها فى النوم من أجل رؤيته
كل يوم ، ولأنها عاشت حيوات كل بطلات قصصه ، وأوهمت لنفسها أنها هى البطلة . .
واليوم هو يريد أن يسلبها حلمها ، ويُخرجها من الجنة فى علياء السماء ، كى يُهبطها
إلى الأرض ، وحواء لن ترضى أبداً أن تهبط إلى الأرض بعد أن هامت فى ملكوت
السماوات . . صارحها بأن ما كتبه لم يكن
لها ولا لغيرها . . رفضت أن تصدقه . . ظنت أن كلماته كاذبة وتبريراته واهية . .
وأنه لم يكن يكتب إلا لها ومن أجلها . . وأنه لولاها ما كان ليكتب أبداً . . فهى
ملهمته وبطلة كل قصصه . . . . وهى . . . . وهى . . . .و هى . . . .
وكانت
النهاية التى لم يكن يريدها قط . . لقد خسرها وضاعت منه إلى الأبد . . قارئة رائعة
وأخت صغرى جميلة رقيقة حالمة . . ويا لها من خسارة لم يكن يتوقعها أبدأ . . إنها
خسارة من ذلك النوع الذى لا يتحمله . . ولن يتحمله لأيام وليالى طويلة . . وإلى
مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق