الجمعة، 26 أكتوبر 2012

و ظنت . . . . . . أنه يكتب لها ! !


و ظنت . . . . . . أنه  يكتب  لها  ! !
----------------------------------
كان باهر يهوى القراءة منذ الصغر ، وكانت له مكتبة صغيرة عبارة عن عدة أرفف خشبية  فى حجرته الضيقة ، كونها من مصروفه القليل بشراء الكتب والقصص والروايات القديمة من إحدى المكتبات فى مدينته ، وكان فى مراحل تعليمه المختلفة ، يهوى الذهاب إلى مكتبة المدرسة فى أوقات الفراغ ، ليقرأ ما تيسر له من الكتب والقصص والروايات ، وإستمرعلى هذا النهج حتى بعد تخرجه من الجامعة، لم يدع تخصصه بالعمل فى مجال القانون ، أن ينال من هواية القراءة التى كان تستولى على جزء كبير من وقت فراغه ، وإستطاع أن يقتنى عدداً من الكتب يُقدر بالمئات – بخلاف ما قرأه ولم يستحوذ عليه – خصص لها مكتبة أنيقة فى غرفة مكتبه الخاصة.

قرأ باهر فى شتى المجالات ، ولم يكتفى بنوع واحد من القراءة ، قرأ فى السياسة كثيرأ ، إهتم بفهم العالم من حوله ، كيف يفكر الساسة ، وكيف تُحكم الشعوب ، وكيف تُدار الدول ، قرأ فى تاريخ معظم الشعوب  ، العربية والأوربية والأمريكية ، قرأ فى تاريخ الحروب والمعارك الكبرى بكافة تفصيلاتها السياسية والعسكرية ، يوميات الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وحروب المنطقة العربية بأسرها ، حتى آخر الحروب ( حرب الخليج الأولى والثانية ) مروراً بحرب أكتوبر المجيدة بيومياتها وتفصيلا ت عملياتها العسكرية ، كان يقرأ وكأنه  متخصص فى عالم السياسة والحروب . . قرأ فى الأد ب العربى كثيراً وبعض من روايات الأدب الإنجليزى والفرنسى مترجماً فى جزء منه إلى العربية ، فقد كان يُجيد الإنجليزية ، قرأ لكثير من الأدباء والشعراء ، وإحتقظ ببعض قصصهم ودواوينهم فى مكتبته الخاصة ، قرأ لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين والعقاد ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وغيرهم كثير ، وقرأ فى الشعر العربى القديم والحديث لشعراء عظام ، أحب أشعار المتنبى وإبن العتاهية والنابغة الزبيانى و جرير والفرزدق والخنساء ، ومن الشعراء فى العصر الحديث قرأ لأحمد شوقى ( أمير الشعراء ) وحافظ إبراهيم ( شاعر النيل ) وأحمد رامى ( شاعر الشباب ) وأبو القاسم الشابى ومحمود درويش وأمل دنقل  وفاروق جويدة  ، وغيرهم من الشعراء المعاصرين . . قرأ فى الأديان السماوية ، كثير من الكتب الإسلامية ، وقرأ الإنجيل والتوراة كاملين . . قرأ فى الطب والهندسة والزراعة والإقتصاد والفلسفة وعلم النفس وعلوم الإجتماع وإدارة الأعمال . . قرأ فى كل شئ ، لأنه يؤمن بأن الثقافة شئ والتعليم شئ آخر ، وأن الثقافة هى" أن تعرف شئ من كل شئ ، لا أن تعرف كل شئ عن شئ واحد فقط " ، فغالبية المتعلمين فى العالم العربى جهلاء جهلاء ، بسبب إنحطا ط مستوى التعليم من ناحية ، ولأن العرب ما صاروا يهتموا إلا بالسخافات والتفاهات ، وشبابهم – فى أغلبهم – أمسوا تافهين ، سخفاء ، سطحيين ، عقولهم خاوية تصفر فيها الريح . . كثيراً ما تحاورت وتناقشت مع البعض منهم ، كنت أحزن وأتألم لحالهم ، ولجهلهم ، ولصغر عقولهم ، وضيق أفقهم ، الحديث معهم أشبه بمن يحاول أن يقرأ جريدة فى الطريق العام فى يوم عاصف شديد الرياح والأتربة ، قطعاً لن تثمر قراءته شيئاً  . .

وظل باهر على هذا النهج فى حياته . . قارئاً ودارساً وفاحصاً ومحللاً لكل شئ من أصغره إلى أكبره ، حتى بلغ من العمر الأربعين عاماً ، صارت لديه حصيلة لا بأس بها من المعرفة والثقافة فى مجالات عديدة ومتنوعة ، وأدرك أن الوقت قد حان كى يُخرج كل حصيلة معرفته وثقافته للآخرين ، ليشاركوه فيها ويستفيدون منها . . وبالفعل أرسل باهر لإحدى المجلات الأسبوعية ، غير المتخصصة فى نوع واحد من المعرفة ، واسعة الإنتشار فى مصر والبلاد العربية ، قبلت إدارة المجلة أن تنشر مقالاته بعد أن طلبت منه نماذج منها للوقوف على مستوى وأسلوب الكتابة ، بعد حيرة وتردد فى أى المجالات يكتب ، فلديه القدرة على الكتابة فى كل شئ وأى شئ ، ولكنه لابد أن يختار مجالين حسب ضوابط النشر بالمجلة ، فإختار أن يكتب فى السياسة والأدب العربى . . وبدأت مقالاته فى الظهور أسبوعياً ، بواقع مقالين أحدهما سياسى والآخر أدبى فى صورة مقال أو قصة قصيرة , وبدأ قراء المجلة من كافة البلدان العربية يتواصلون معه ويرسلون إليه تعليقاتهم على مقالاته وقصصه ، وأسعده هذا الأمر كثيرا ً ، كان قراؤه من كافة الأعمار والأجناس ، خاطب الشباب والكبار ، والنساء والفتيات ، وإزداد قراؤه يوماً بعد يوم ، وبصفة خاصة قراء المقالات الأدبية ، التى تنوع قراؤها بدرجة واضحة . . . وكان من بينهم علياء . .

كانت علياء فتاة تونسية ، فى منتصف العشرينات من عمرها ، وكانت عاطفية رقيقة وحالمة ، لها قلب أبيض صافى شديد الصفاء والنقاء ، قرأت إحدى قصصه فأعجبتها ، وأرسلت إليه تعليقاً أبدت فيه إعجابها بأفكاره المتنوعة وأسلوبه الرائع البديع ، تعددت المقالات والقصص الأدبية التى تستهويها ، وتعددت معها خطابات علياء إليه ، أسعده كثيراً خطاباتها وتعليقاتها ، وأحياناً كانت ترسل إليه بعضاً من خواطرها ليبدى رأيه فيها ، إعتبرها بالنسبة إليه أخته الصغرى ، وكان يخاطبها بهذا الإسم دائماً . . أختى الصغرى / علياء . ولكن يبدو أن كان لها رأى آخر . .
فجأة . . . بدأت خطابات علياء إليه تأخذ منحى آخر ، وتحوى تساؤلات لم يكن يتوقعها ، سألته ذات مرة بعد أن قرأت قصة من قصصه أعجبتها : هل كتبتها لى ومن أجلى ؟ ؟  ومرة أخرى أخبرته بأنها تتمنى لو كانت إحدى بطلات قصصه الرائعة  , وبدأت تلاحق مقالاته وقصصه الأدبية تحديداً ، تقرأها ثم تعيش أحداثها وتتخيل أنها بطلة هذه القصة . . صحيح أن أسلوب باهر كان ممتعاً ، سهلاً وبسيطاً ، راقياً فى كلماته ، أنيقاً فى تعبيراته وصوره وتشبيهاته ، وكانت جميع قصصه لها مذاق خاص وعطرها من النوع الفواح . .

لقد حاول أن يوضح لها – عدة مرات – أنه لا يقصد أحداً بعينه فى كتاباته وقصصه الأدبية ، وأن القصص الأدبية تقوم فى الأساس على وحى خيال القصاص أو الأديب ، مع إستعارة بعض الأسماء أو الصفات ممن حوله فى ربوع الحياة ، ولطالما كتب يوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وحتى منى نور الدين ، رواياتهم الجميلة الرائعة الحالمة ، من وحى خيالاتهم ، وأغرقوا فى الرومانسية حتى كنا نغرق معهم فى بحور دموعنا ، وكانوا يحلقوا بنا فى الخيال كيفما شاءوا ، ولكن عقلها رفض أن يستوعب ذلك ، وغلبتها عاطفتها الجميلة الرقيقة الوديعة ، فسكت صوت العقل لديها ، وعزفت أوتار العاطفة والرومانسية مقطوعة الهيام  .  . . . ولكن ! !

لم يكن هو على إستعداد لأن يستمر الحال على هذا النحو ، إنه يكتب من وحى خياله الخصب ، وقد وهبه الله - سبحانه وتعالى - القدرة على أن يتخيل كل شئ وأى شئ له علاقة بالمشاعر الإنسانية ، ومكنونات الصدور، وسرائر النفوس ، وأعماق النساء ، وأغوارالوجدان والكيان ، وأن يصوغ كل ذلك بأسلوبه الناعم ، الرائع المحكم ، تساعده مفرداته وأدوات لغته وبلاغته ، فيحيل الحلم والخيال إلى واقع ملموس وحياة . . . وكان لابد من وقفة ونقطة نظام ، لتحديد الأمور والأشياء ، بشكل قاطع وحاسم ، كما تعود هو فى حياته ، وخاصة فى المشاعر الإنسانية .

لم تقبل هى صراحته ، ولم ترض أن يوقظها من ذلك الحلم الذى أغرقت نفسها فى النوم من أجل رؤيته كل يوم ، ولأنها عاشت حيوات كل بطلات قصصه ، وأوهمت لنفسها أنها هى البطلة . . واليوم هو يريد أن يسلبها حلمها ، ويُخرجها من الجنة فى علياء السماء ، كى يُهبطها إلى الأرض ، وحواء لن ترضى أبداً أن تهبط إلى الأرض بعد أن هامت فى ملكوت السماوات  . . صارحها بأن ما كتبه لم يكن لها ولا لغيرها . . رفضت أن تصدقه . . ظنت أن كلماته كاذبة وتبريراته واهية . . وأنه لم يكن يكتب إلا لها ومن أجلها . . وأنه لولاها ما كان ليكتب أبداً . . فهى ملهمته وبطلة كل قصصه . . . . وهى . . . . وهى . . . .و هى . . . .  
وكانت النهاية التى لم يكن يريدها قط . . لقد خسرها وضاعت منه إلى الأبد . . قارئة رائعة وأخت صغرى جميلة رقيقة حالمة . . ويا لها من خسارة لم يكن يتوقعها أبدأ . . إنها خسارة من ذلك النوع الذى لا يتحمله . . ولن يتحمله لأيام وليالى طويلة . . وإلى مقال آخر إن شاء الله .     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق