هل نسى
حقاً . . . . ما كان منها بالأمس ؟ ؟
-----------------------------------------
بينما كان
أحمد يتأهب لمغادرة المدرسة التى يعمل بها مدرساً ، بعد أن إنتهى اليوم الدراسى ،
وإنصرف زملاؤه جميعاً . . رن جرس هاتفه المحمول فجأة ، إلتقطه أحمد ليعرف من المتصل
. . إنها هالة . . إنها تلك الحبيبة التى
تركته ومضت منذ شهور ، بعد أن تنصلت من مشاعرها تجاهه ، وأنكرت كل ما كان بينهما
من ود وحب . . لم يفكر أحمد طويلاً ، ورد على الهاتف ، فسمع صوتها يأتى من بعيد .
. لم يدم حديثهما طويلاً . . طلبت هالة من أحمد اللقاء فى مساء ذات اليوم ، لأمر
تراه هاماً وضرورياً . . لم يستطع أحمد شيئاً سوى أن يوافق على لقائهما . . وهو لا
يدرى حقاً ماذا تريد منه ؟ ؟
إنتهت
المكالمة سريعاً . . وجلس أحمد حيث هو فى حجرة التدريس بالمدرسة ، بعد أن كان
يستعد للإنصراف والعودة إلى بيته . . جلس يسأل نفسه . . ماذا تريد منى بعد كل هذه
الشهور التى مضت ؟ ؟ لقد إنقضت عدة شهور ، ولم تحادثه فيها ولو لمرة واحدة منذ آخر
لقاء بينهما . . ذلك اللقاء الذى تبرأت فيه من كل شئ بينهما . . وتنصلت من كل
مشاعرها تجاهه. . وأكدت له أنها ما أحبته يوماً ، وما مال إليه قلبها يوماً ، وما
رغبت فى القرب منه أو الحياة معه أبداً . .
جلس أحمد
وحيداً ، يتذكر كيف رأى هالة لأول مرة ، فى ذات الحجرة التى يجلس فيها الآن ، يوم
أن جاءت ولأول مرة ، كى تعمل بالتدريس فى المدرسة ، وبذات القسم الذى يعمل فيه ،
قسم اللغة العربية بالمدرسة . . تذكر أحمد كل ما كان بينهما، ومدى قربهما ، وكيف
توطدت علاقتهما ، حتى صارت حباً وغراما ً
. . إنها لم تكن تعرف سواه فى المدرسة ، ولم تتحدث مع أحد غيره ، ولم تأنس لشخص
سواه ، وكانت بالنسبة له هى الدنيا بأسرها . . ولكنها . . فجأة . . وبلا أية
مقدمات ، أنكرت كل ما كان بينهما ، وألقت به خلف ظهرها ، وهرولت مُسرعة إلى الزواج
من إبن خالتها ، الذى سافر إلى إيطاليا للعمل هناك ، ثم عاد كى يطلب الزواج بها ،
وقبلته هى بلا تردد . . ونسيت ما كان بينها وبين أحمد ، وتنصلت من مشاعرها تجاهه ،
ومن لحظتها لم يرها أحمد . . علم أنها حصلت على أجازة للزواج والسفر إلى إيطاليا
مع إبن خالتها .
واليوم . .
إنها تعاود الإتصال به مرة أخرى ، بعد مرور عدة شهور ، تطلب لقاءه ، وهو لا يدرى
سبب اللقاء . . إن جرحه الذى تسببت فيه وأوشك أن يندمل ، بعد أن توقف نزيفه وخف
ألمه ، وأدرك أن الحياة لابد وأن تستمر معها أو مع غيرها . . إنه مازال يجاهد من
أجل نسيانها ، حتى أنه منع نفسه من الجلوس فى ذات المكان ، الذى كان يجمعهما بحجرة
التدريس بالمدرسة ، عدة شهور متتالية ، كى ينسى أو يتناسى كل ما كان بينهما ،
ولكنه حتى اليوم لم يستطع أن ينسى كل شئ . . . وفجأة دخل إلى حجرة التدريس أحد
زملاء أحمد ، وسأله عن سبب عدم مغادرته المدرسة بعد إنتهاء عمله فيها . . تنبه
أحمد ، ولملم نفسه التى تبعثرت بين ذكريات حبه وغرامه ، وإمتدت يده لتمسك بحقيبته
، ونهض واقفاً ليغادر الحجرة والمدرسة ، عائداً إلى منزله .
عاد أحمد
إلى بيته . . دخل إلى غرفته ، وأغلقها عليه وحده ، حاول أن ينام قليلاً ولكنه لم
يستطع . . كانت الساعات تمر بطيئة وثقيلة ، حتى إقترب موعد اللقاء ، إرتدى ملابسه
ثم خرج ، كى يلاقيها لأول مرة منذ عدة شهور . . كان مرتبكاً وكان قلقاً ومتوتراً ،
وكان لا يرغب فى لقائها مرة أخرى ، كى لا تتجدد أحزانه وآلامه ، ولكنه ما إستطاع
أن يرفض لها لقاءً .
ذهب أحمد
إلى حيث مكان اللقاء . . لم ينتظرها طويلاً حتى حضرت ، وما أن وقعت عيناه عليها ،
حتى خفق قلبه بشدة ، وأحس أن قلبه أوشك أن ينتفض خارجاً من صدره . . ألقت عليه
التحية ثم جلست ، رد أحمد التحية ، ونظر إلى وجهها ، فوجده شاحباً تبدو عليه
علامات القلق والتوتر ، وأمارات التعب والإرهاق ، ويعلوه الحزن والألم . . ما عادت
كما كانت فى لقائهما الأخير ، بدا عليها وكأن الإبتسامة غادرت شفتاها ، منذ وقت
طويل ، وهى التى كانت تتلألأ بجمالها وإبتسامتها . . . لم يدم الصمت بينهما طويلاً
. . حتى بادرته هى قائلة :
قالت ( وهى
تسأل ) : كيف حالك يا أحمد ؟
قال (
مُندهشاً ) : يااااه أحمد . . أما زلتِ
تتذكرين إسمى يا هالة ؟
قالت ( وهى
تبتسم ) : وكيف لا أتذكره ؟ ومن قال لك أنى نسيته ؟
قال : ومن
قال لكِ أنكِ تتذكرينه ؟ إنكِ فى آخر لقاء بيننا منذ شهور . . لم ينطق لسانك بإسمى
قط ، ألا تتذكرين يا هالة ؟
قالت :
دعنا من هذا الحديث . . وإخبرنى كيف حالك ؟
قال :
الحمد لله . . أنا أحيا مثل الآخرين . . أأكل وأشرب وأنام وأستيقظ وأروح وأجئ .
قالت ( وهى
تنظر إلى يديه ) : أما زلت وحيداً ، لم ترتبط بأخرى غيرى من بعدى ؟
قال (
نافياً ) : ما قابلت بعد صاحبة النصيب .
قالت : إذن
. . لقد نسيتنى . . أليس كذلك يا أحمد ؟
قال ( مستفسراً
) : ألم تطلبى منى أن أنساكِ ، وأبحث عن غيرك ، فى آخر لقاء بيننا ؟
قالت ( وهى
تضحك ) : وهل نسيتنى فعلاً وبحثت عن غيرى ؟
قال :
أحاول أن أنساكِ . . ولكننى لا أبحث عن غيرك .
قالت : إذن
. . الحمد لله . . أنك لم تنسنى ولم ترتبط بغيرى حتى الآن .
قال :
الحمد لله على كل حال . . ولكنكِ لم تخبرينى ، لماذا طلبتى لقائى ، بعد كل هذه
الشهور .
قالت (
مُتسائلة ) : أما كنت ترغب فى لقائى يا أحمد ؟
قال : ومن
منا ترك الآخر يا هالة ؟ ومن منا غدر بالآخر ؟ ومن منا أنكر صلته بالآخر ؟ ومن منا
تنصل من مشاعره تجاه الآخر ؟ ومن منا كره لقاء الآخر ؟
قالت : لا
. . لا تقل أنى نسيت ما بيننا ، وكرهت لقاءك .
قال : دعكِ
أنتِ من هذا الحديث . . وأخبرينى ماذا تريدين منى ؟
قالت : ألا
تريد أن تعرف أخبارى ، وتسأل عن أحوالى ؟
قال : لقد
علمت أنكِ تزوجتِ من إبن خالتك ، وسافرتِ معه إلى حيث يعمل ويُقيم ، ومرت شهور ولم
أسمع عنكِ جديداً .
قالت : لقد
عُدت مؤخراً إلى مصر ، منذ أسبوعين فقط ، وأسعى الآن إلى العودة للعمل بالمدرسة.
قال : وأين
زوجكِ ؟ هل جاء معكِ ؟
قالت : لا
. . لقد عُدت وحدى يا أحمد .
قال (
مُستفسراً ) : ولم ؟ هل حدث بينكما خلاف ؟
قالت : نعم
. . لقد إنفصلنا هناك قبل مجيئى إلى مصر ، ووقع بينا الطلاق ، وعُدت وحدى .
قال :
أبهذه السرعة وقع بينكما الطلاق ؟ وأنتما لا تزالا فى البداية ؟ هل كان زواجكما
حقيقياً ؟ أم كان زواجاً على ورقة طلاق ؟
قالت : لم
نستطع أن نتفاهم سوياً ، طبائعه وخصاله مختلفة عنى تماماً ، إنه صار جزءً من
المجتمع الذى يعمل ويعيش فيه ، لقد أصبح رجلاً غربياً ، أما أنا فما زلت إمرأة
شرقية ، لى تقاليدى وعاداتى . . لقد إختلفنا حول أمور كثيرة ، ودب بيننا الخلاف
منذ بداية زواجنا ، وإزداد الخلاف يوماً بعد يوم ، حتى صارت الحياة بيننا مستحيلة
، فإتفقنا على الإنفصال ودياً ، مراعاة لصلة القرابة بيننا . . وأحمد الله أنى لم
أنجب منه أولاداً .
قال (
متسائلاً ) : وماذا بعد يا هالة ؟
قالت : لا
شئ . . سوف أعود إلى عملى مرة أخرى ، كما قلت لك ، وسوف أبدأ حياتى من جديد .
قال :
أتمنى لكِ التوفيق والنجاح يا هالة .
قالت :
أهذا كل ما لديك من أجلى يا أحمد ؟ أن تتمنى لى التوفيق وحسب ؟
قال :
وماذا تريدين منى أن أقول أو أفعل يا عزيزتى ؟
قالت ( وهى
واثقة ) : أراك ما زلت على العهد باقى . . وما زال حبى فى أعماقك . . أراه فى
عينيك وأنت أمامى .
قال : لا .
. قولى شيئاً آخر يا هالة . . إنى نسيتكِ وما عُدت اذكركِ . . ما عاد عقلى يتذكركِ
. . وما عاد قلبى يرنو إليكِ . . وما عادت عيناى تتخيلك . . ما عاد شيئاً كما كان
من قبل . . إنى نسيتكِ وأخرجت من قلبى حبكِ .
على الفور
إمتدت يد هالة إلى هاتف أحمد لتمسك به ، وظلت تبحث عن إسمها حتى وجدته فى سجل
أسمائه . . نظرت إليه ثم ضحكت . . وقالت
له : إن كان ما تقوله حقاً ، فلماذا لم تمحى إسمى من هاتفك بعد كل هذه الشهور ؟
إنك تخدع نفسك ولكنك لن تخدعنى ، فأنا أعرفك جيداً وأفهمك جيداً ، ولكنك ما عرفتنى
قط وما فهمتنى قط . . ونهضت واقفة ، وقبل أن تغادره ، نظرت إليه وقالت : سوف ألقاك
فى الأسبوع القادم ، حيث عملى بالمدرسة . . وأنا على يقين ، أنك سوف تنتظرنى كما
تعودت دائماً ، فأنا لا أعرف غيرك ولا أميل لسواك ، ولكنك يا عزيزى لا تفهم النساء
، وإستدارت كى تمضى فى طريقها . . وهو جالس فى مكانه يسأل نفسه : هل ما تقوله هى
حق ؟ ؟ وهل ما يزال يحبها ويتمنى قربها ، رغم كل ما فعلته به منذ شهور ؟ ؟ وهل هى حقاً صادقة حين قالت : أنه يخدع نفسه
بإنكاره حبها ؟ وهل هو حقاً يميل إلى الصفح عنها ، وغفران ما بدر منها ؟ وهل نسى حقاً ما كان منها بالأمس ؟
نظر أحمد
من حوله . . فوجد الجميع قد إنصرفوا إلا هو . . نهض واقفاً ومضى فى طريقه ، يسير
بخطوات متباطئة وثقيلة . . وهو لا يدرى بما حوله . . ويردد فى أعماقه ويتساءل
حائراً :
هل نسيتُ حقاً . . . . . ما كان منها بالأمس ؟ ؟ ؟ ؟ وإلى مقال آخر إن شاء الله .