رحلت
صاحبة القصر . . . وما بكت عليها السماء ! !
-------------------------------------------------
فتحت صاحبة
القصر باب غرفتها ، وإنطلقت مسرعة خارجها
، تلاحقها إستغاثة قلمها : " رحماك يا الله ، رحماك يا الله ، إنها تسعى إلى
الهلاك ، ولن تدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان " . . خرجت صاحبة القصر إلى
الطريق ، وإتجهت ناحية القصر، أبصرت بوابة القصر مفتوحة من بعيد ، أسرعت الخُطى
وهى تكاد ألا تقوى على السير ، لقد أفزعها ما رأته من هول مشهد ساكن القصر
الجنائزى الحزين ، وأنهكها حديث القلم الذى أصابها بالحزن والألم ، سارت صاحبة
القصر نحو القصر وهى تترنح ، إقتربت من بوابة القصر ، وفجأة هبت ريح عاتية ،
لثوانى معدودة ، أقفلت الريح بوابة القصر قبل أن تصل إليها ، أحست صاحبة القصر أن
هناك قوة خفية تمنعها من التوجه إليه ، وأن شيئاً ما يعوق حركتها ، وها هى بوابة
القصر قد اُغلقت فى وجهها من تلقاء نفسها . . رددت فى أعماقها : يا إلهى ، ماذا
يحدث لى ؟ أشعر أن العالم بأسره يقف فى وجههى . . حاولت أن تفتح بوابة القصر ما
إستطاعت ، إلا بعد جهد كبير أن تزيحها بقدر مرور جسدها النحيل .
دخلت صاحبة
القصر إلى بستان القصر وحديقته ، أبصرت عيناها الورود والزهور وقد ذبلت ، وتغير
لونها ، وإنكفأت على الأرض ، وكأنها تنتحب وتبكى ، رفعت بصرها لأعلى فوجدت الفروع
والأغصان ، وقد تساقطت أوراقها ، وصارت عارية وأصفر لونها ، أين خضرتها وندرتها ؟
؟ لقد ذهبت ولم تعد بادية . . تعجبت صاحبة القصر لما يحدث ، وقالت فى نفسها : ما
بال هذه الورود والأزهار قد ذبلت هكذا ؟ وما بال الفروع والأغصان قد تساقطت
أوراقها وإصفر لونها هكذا . وما بال الصيف إستحال خريفاً وشتاءً هكذا ؟
نظرت حولها
، أحست أن القصر تحيط به الكآبة ، ويُخيم عليه الحزن ، ما تقع الأعين عليه إلا
ووجدته خَرِباً مهجوراً . . أدلفت صاحبة القصر إلى داخل باحته ، إشتمت رائحة الموت
فى باحة القصر ، كل شئ فى القصر أصبح جامداً ، عادت النوافذ مغلقة والستائر مُسدلة
، والهواء داخل القصر ما عاد نسيماً ، كل شئ داخل القصر كان حزيناً ، حتى اللوحات
الجميلة التى كانت تزين جدران القصر صارت باهتة . . جلست صاحبة القصر على الأرض
وسط باحته ، إنها جلست حيث مات ساكن القصر ، ولم تكن تدرى أنه مات ها هنا ، لم تكن
تدرى أنه قضى ليلته الأخيرة راقداً فى تلك البقعة من باحة القصر ، حاملاً
رسالتها فى يده وعلى صدره ، ولم تكن تدرى أنه ظل راقداً فى هذا المكان ،
والطيور تنوح من حوله وتبكى على فراقه ، ولكنها جلست من شدة التعب ، تنعى حالها
وحال قصرها .
وفجأة . .
سمعت صاحبة القصر أصوات الطيور قادمة نحو القصر ، دخلت الطيور إلى باحة القصر
بأعدادها الكبيرة ، يتقدمها العصفور الحزين على فراق صاحبه ساكن القصر ،
وجدوها جالسة حيث مات ، تنتحب وتبكى من لوعة الفراق . . أغضب مشهدها كل الطيور ،
وأخذت ترفرف بجناحيها وتموج وتموج من حولها ، وهى جالسة مزعورة وخائفة من غضبة
الطيور ، إنها تعلم كم كانت الطيور تحب ساكن القصر ، وأنها تلقى عليها بلائمة
موته . . ما عادت الطيور ترغب فى رؤيتها ، وما عادت تبتغى بقاءها فى القصر ،
وما عاد القصر نفسه يسكن إليها ويهدأ . . شعرت صاحبة القصر أن الدنيا بأسرها قد
لفظتها ، وكرهتها ونفرت منها من أجل ذلك الساكن الوحيد . . نظرت صاحبة
القصر إلى العصفور الحزين نظرة غفران ، ونظر إليها العصفور نظرة غاضبة وحانقة ،
وقال فى صوت جهورى شديد ،
قال
العصفور وهو غاضب : مالذى أتى بكِ إلى هنا يا صاحبة الموت ؟
قالت : ما
بالك أيها العصفور تكرهنى وتغضب منى هكذا ؟
قال
العصفور ( مستنكراً ) : أما تدرين ما فعلتِ يا صاحبة الموت ؟
قالت : أنا
لم أفعل شيئاً ، هو الذى فعل ! !
قال
العصفور : ما فعله ، هو أنه أحبكِ وأراد قربكِ ! ! أما أنت فقد نفرتِ منه وكرهته .
قالت : لا
. . لقد تسلل إلى قلبى رغماً عنى ، وإقتحم قصرى بدون موافقتى ، وأراد أن
يسيطر على كل كيانى ، مَرح فى بستانى ، وداعب ورودى وأزهاى ، وإستظل بفروعى وأغصانى
، ودخل باحة قصرى ، وفتح كل نوافذه ، وأزاح كل ستائره ، وتطلع بعينيه إلى لوحاتى ،
ونام فى فُرشى ، وجلس على أريكتى ، لقد أراد أن يستولى على قصرى ! !
قال
العصفور : وأنتِ ؟ أما أرسلتِ إليه رسالة حب ، دعوته أن يدخل قلبكِ ، وأن
يسكن فى قصركِ ، ووعدته بقربك ؟ ومنيته بالحياة معكِ فى هذا القصر اللعين ؟ ؟
قالت ( وهى
تتبرأ ) : أنا ما وعدته ، إن قلبى هو الذى مال إليه ، فؤادى تعلق به رغماً عنى
، أما أنا فلم أرض بأن يسكن أعماقى ، ويجرى حبه فى دمائى ، داخل شرايينى وأوردتى .
قال
العصفور ( مُتسائلاً ) : وما ذنبه ، وقد راح ضحية ما بين قلبكِ وعقلكِ ؟
قالت (
معترقة ) : لا ذنب له . . الذنب ذنبى ، والقول قولى ، والفعل فعلى ، ولا أريد إلا
الغفران!
قال
العصفور : عن أى غفران تتحدثين يا قاسية القلب ، بعد أن مات ؟
قالت (
راجية ) : غفران ربه ، وغفران روحه ! !
قال
العصفور : وما الذى أتى بكِ إلى هذا القصر الآن ؟ وأجلسكِ هنا حيث مات ساكن القصر
؟
قالت :
أريد قصرى ، سوف أسكنه ، سوف أفتح أبوابه ونوافذه ، سوف أروى وروده وأزهاره ، كل
شئ فيه هو منى ولى ، إنه قصرى ! !
قال
العصفور ( مُتحدياً ) : لا . . ليس قصركِ بعد اليوم ، لن يسكنه أحد بعده أبداً ،
سوف تقطنه البوم والغربان ، نحن لا نريدكِ هنا ، ولا شئ سوانا يريدكِ ، حتى القصر
نفسه لا يريدكِ !
قالت :
ولكنى صاحبة القصر ، وهو ملكى ، وسوف أسكن فيه .
قال
العصفور : لا تقولى صاحبة القصر ، بل قولى صاحبة القبر ، الذى مات فيه
عزيزنا وحبيبنا ، وهو يحبكِ ، ويُمنى نفسه بقربكِ ،لتحييا سوياً فيه وقت أن كان
قصراً ، وما دمتِ لم تدعيه يسكنه ، فنحن لن ندعكِ تسكنيه !
قالت : هل
ترغموننى على ترك قصرى ؟
قال
العصفور : نعم . . لقد أرغمته على ترك الدنيا بأسرها ، ولستِ عندنا أغلى منه ، ولا
أعز منه ، ولا أفضل منه ، إنه كان أعز وأغلى الناس ، أخرجى من ها المكان ،
فلن ندعكِ تسكنيه !
قالت :
لنرى إذن لمن الغلبة ؟ لى أم لكم ؟
ولم تكن
صاحبة القصر قد أكملت كلماته ، حتى رأت الطيور جميعها تنهال عليها ضرباً بأجنحتها
، وإرتفع صوت نعيق البوم والغربان فى باحة القصر ، وأضحى المشهد مُفزعاً ، لقد
إنتووا الهلاك لصاحبة القصر . . نظرت فى أعين الطيور ، فوجدت الغضب والنفور ، وخشيت
على نفسها من الهلاك ، فنهضت مُسرعة تهرول خارج القصر نحو بوابته ، وما أن تجاوزت
قدميها بوابة القصر ، حتى هبت الريح لتغلقها من جديد ، وصاحبة القصر خارجه . . لقد
غلبتها الطيور ، ولفظها القصر ، وأطاحوا بها جميعاً خارج القصر ، ما عاد القصر
قصرها ، وما عادت تستطيع العيش فيه بعد اليوم . . هذا ما أدركته صاحبة القصر فى
حينه .
خرجت صاحبة
القصر ، وإتجهت صوب بيتها ، حيث تسكن وتقيم ، وهى حزينة ويائسة ومقهورة . . لقد
قررت صاحبة القصر أن ترحل عن هذه البقعة من الأرض بأسرها ، إتجهت نحو غرفتها ،
وبدأت تلملم حاجاتها ، جمعت ملابسها فى حقيبتها ، وقررت أن ترحل بلا رجعة ، إلى
مكان آخر يرحب بها . . إتجهت نحو باب غرفتها لتخرج منه ، ولكنها تذكرت فجأة قلمها
وأوراقها ، غفلت عنهما ولم تضعهما فى حقيبتها ، إستدارت حيث القلم والأوراق ، وضعت
الأوراق داخل الحقيبة ، وإمتدت يدها لتُمسك بالقلم ، فسمعته يقول :
قال القلم
: ماذا تريدين منى بعد كل ما فعلتى ؟
قالت : إنى
راحلة . . وأريدك معى !
قال القلم
( مُتسائلاً ) : وما أدراكِ أنى أريد أنا أرحل معكِ ؟
قالت : أنت
قلمى ، كاتم أسرارى ، ولا بد أن تصحبنى حيث رُحت !
قال القلم
: ما عادت لى رغبة أن أصحبكِ ، وما عادت لى رغبة أن أخط لكِ حرفاً ولا كلمة ، لقد
أتعبتنى السنين ، وأتعبتنى أنتِ معكِ ، أنا لم أعد كما كنت ، لقد كبرت وهرمت ونال
الشيب منى ، نالت منى السنين ، وأضعفتنى كثرة الحروف والكلمات ، وأنتِ قضيتِ على
ما تبقى منى .
قالت : أنا
صونتك وحفظتك ، أنا لم أقضى عليك ، أنت قلمى !
قال القلم
: لا . . لقد قضيتِ علىّ عندما قضيتِ على ساكن القصر ، لقد كان أملى الأخير فى هذه
الحياة ، وها هو قد مات ، ومات معه أملى وكل رجائى !
قالت :
ولكنى لا أقدر على فراقك ، أنت تدرك ما بأعماقى ، أنت كاتم أسرارى .
قال القلم
: ما عُدت أقدر على الكتابة ، وما عُدت أنفعكِ ، دعكِ منى ، وإبحثى عن غيرى .
قالت : لا
. . بل أنت قادر ، ولكنك لست راغباً أن تكتب لى مرة أخرى .
قال
القلم : صدقتِ . . لن أكتب بيدكِ لغيره
أبداً ، إن كنتِ ترغبين غيره ، ولكنى أعرف أنكِ حتى لا ترغبين غيره ، فما إذن
حاجتكِ لى ؟ دعكِ عنى ، وإذهبى إلى حيث شئتِ .
قالت ( وهى
تتوسل ) : أرجوك . . لا تفعل بى هكذا ، كفى ما بى ، أنت الوحيد الذى تبقى لى من كل
هذه الدنيا ، تعالى معى حيث أذهب ، رافقتنى سنين طويلة ، فلا تتركنى الآن وحدى !
قال القلم
( وهو يبكى ) : دعكِ عنى . . إذهبى حيث شئتِ ، لقد أجبرتِه على فراقكِ ، وأنا
اليوم أجبركِ على فراقى !
قالت : أنا
لم أجبره على فراقى ، إنه هو الذى مات ، لقد إنقضى عمره ، وإنتهى أجله .
قال القلم
: وأنا أيضاً . . إنقضى عمرى ، وقَرب أجلى ، وما عاد لكِ بى حاجة ، دعكِ عنى
وإذهبى ، هذا فراق بينى وبينكِ إلى الأبد ! ! ! !
قالك (
بإصرار ) : لا . . لن أدعك تتركنى وحدى ، سوف آخذك بالقوة ، رغماً عنك ، ألم تقل لى
من قبل أنك مجبور على طاعتى ؟ ؟
وإمتدت
يدها لتُمسك بالقلم ، إهتز القلم بشدة وإرتعشت يدها ، و سقط القلم على أرض الغرفة
. . إنكسر القلم وسالت منه أحباره ، إنكفأت عليه وهى تصرخ وتبكى : قلمى ، رفيق عمرى
كله . . ولكن ماعاد الصراخ ولا البكاء يُجدى ، لقد إنكسر القلم ، لقد مات القلم ، أراح
وإستراح .
لم تقدر
صاحبة القصر على البقاء ، بعد أن إنكسر قلمها ، وتحطم قلبها ، وأحست بقرب ضياع
عمرها ، حملت حقيبتها وخرجت إلى الطريق ، وهى لا تدرى أين تذهب . . كانت خطواتها
بطيئة وثقيلة ، ترهقها الأحزان ، وتثقل كاهلها الهموم ، ويملأ قلبها الحزن على
ساكن القصر الذى أحبها ، وعلى رفيق العمر الذى راح عنها . . إمتدت يدها إلى حقيبتها
، أخرجت الصورة الملعونة ، التى قضت على كل أحبائها ، وكانت سبباً فى
همومها وأحزانها . . نظرت إليها وأطالت النظر، وكأنها تودعها أو تودع صاحبها ،
ثم وضعتها فى حقيبتها مرة أخرى ، ومضت لتكمل طريقها .
وبينما هى
سائرة – تبكى حالها – إذ سمعت صوتاً من السماء يناديها " يا صاحبة القصر .
. لقد أمرنى الرب . . ألا أدعكِ تعيشين لحظة بعد الآن " ، ،
، رفعت عينيها إلى السماء لتتأكد مما تسمع
، فسمعت الصوت يناديها من جديد " يا صاحبة القصر . . لقد أمرنى الرب . . ألا
أدعكِ تعيشين لحظة بعد الآن " ، ، ، حينئذ . . أدركت صاحبة القصر أنها
النهاية ! وما هى إلا خطوات قليلة ، حتى أحست بألم شديد فى صدرها ، ما عادت تقدر
على التنفس ، والألم يزداد والوجع يستمر . . جلست على الأرض وسط الطريق ، تضع يدها
على صدرها ، وتطلق الآه تلو الآه تلو الآه . . ولكنها كانت لحظات
النهاية ، لم تتمالك نفسها وإرتمت على ظهرها . . وفجأة خرجت الروح من جسدها إلى
بارئها ، وفارقت الحياة . .
لقد ماتت
صاحبة القصر . . ولحقت بكل أحبائها ، ماتت وحيدة ، ماتت بعيدة ، ماتت شريدة . .
ماتت ورحلت عن الدنيا بأسرها . . رحلت ، ولم تودعها الورود ولا الزهور ، ولا
الفروع ولا الأغصان . . رحلت ، ولم تنوح من أجلها الطيور . . رحلت ، ولم يحزن
لرحيلها قصرها . . رحلت ، وما بكى عليها أحد . . رحلت صاحبة القصر ، وما أبرق
الرعد لرحيلها ، وما بكت عليها السماء ! !
!
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق