صاحبة
القصر . . . ولعنة الحب الضائع ! !
-----------------------------------------
مات ساكن
القصر. . وجلست صاحبة القصر فى غرفتها وحيدة ، أغلقت عليها باب الغرفة ، وإرتمت
على سريرها تبكى وتنوح ، وتردد فى أعماقها وتقول : كيف وصل بى الحال إلى هذه
القسوة ؟ ماذا جرى لى ولقلبى ؟ إننى لم أكن يوماً قاسية ؟ هل حقاً – كما يقولون –
أنا التى قتلته ؟ هل أنا التى قتلت ساكن القصر الذى أحبنى ؟ وتمنى القرب منى ،
ودخل قلبى ، وسكن فى قصرى ، ونام على فُرشى ، ومَرح فى بستانى ، وعشقته ورودى
وأزهارى . . وما هذا المشهد الجنائزى المهيب الذى رأيته ؟ ماذا فعل ساكن القصر لكل
هؤلاء كى يحبوه هكذا فى ثلاثين يوماً فقط ؟ وأنا التى معهم منذ سنين ، ناحت الطيور
على رحيله ، وحزنت الورود والزهور والفروع والأغصان لأجله ، وأبرَق الرعد مهابة
لموته ، وأمطرت السماء فى غير موعدها حزناً عليه ، تألمت الدنيا كلها لرحيله ، هل
كان طيب القلب عاشقاً للحياة إلى هذا الحد ؟ إنه كان يحبنى ، ورغم ذلك قسوت عليه
وما رحمته ! ! وأخذت تردد : إننى ملعونة .
. لن يسامحنى الله أبداً .
ونهضت من
فورها . . وإتجهت إلى حيث أوراقها وقلمها ، إنها تريد أن تكتب إليه كلمات رثاء ،
وأن ترسل إليه رسالة غفران ، لعل روحه تسامحها ، ويغفر لها الرحمن ، تريد أن تنعيه
لكل البشر ، وتخبرهم كيف أنها كانت تحبه ، وكيف أنها ما كانت تكره قربه ، وكيف
أنها ما رفضت حبه ، وكيف أنها ما قتلته وأضاعت حياته وعمره ، تريد أن تخبرهم بكل
ذلك . . إمتدت يدها لتمسك بالقلم كى تكتب كل هذا ، إهتز القلم فى يدها بشدة
وإرتعشت يداها ، أحكمت عليه قبضتها فإزداد إهتزازاً ، أرادت أن تكتب كلمات فما
إستطاعت ، ما عاد القلم يطاوعها ، وما عاد يريد أن يخط لها كلمات أخرى ، كلما
حاولت أن تكتب إهتز القلم فى يدها ، أدركت عندئذ أن القلم ما عاد قلمها ، وأنه ما
عاد يكتب لها . . تركته من يدها ، ونظرت إليه وقالت:
قالت له :
ما بك يا قلمى ؟ ألا تريد أن تطاوعنى ؟
قال القلم
( وهو حزين ) : أطاوعكِ فى ماذا ؟ لقد راح الذى طاوعتكِ من أجله ، عشتُ سنين وسنين
وأنا أنتظره ، هرمتُ ونال الشيب منى وأنا أتمنى مجيئه ، ولما جاء فرحتُ لأجلكِ ،
وفرحتُ به ، ولكنكِ أضعتِ فرحتى وقتلته ، ما عادت كتابتكِ فى شئ تهمنى ، قلـتُ لكِ
إبحثى عن غيرى ، هل ما زالت عندكِ كلمات خداع ؟ هل أعجبكِ القتل ؟ هل إستمرأتِ
الضياع ؟
قالت : لا
. . لن أكتب كلمات خداع ، دعنى أكتب فيه رثاء ، دعنى أطلب منه الغفران ، ساعدنى أن
أرتاح ، دعنى أنعيه لكل بقاع الأرض ، دعنى أخبرهم أنى عشقته وأنى أضعته ، ولكنى
أبداً لم أقتله ، لم أقتله . .
قال القلم
( مستنكراً ) : كلمات رثاء ، وهل بعد الموت كلام ؟ وأى كلام يرجوه الأموات ؟
قالت : ما
بالك لا ترحمنى ؟ ما بالك تقسو علىّ وأنت تدرى حقيقة أمرى ؟ أتذكر . . ؟ منذ سنين
طوال كتبت بك كلمات وحروف لشخص ما زلت أذكره ، هل تذكره ؟ هل تذكر كلماتى إليه ؟
هل تذكر كم أحببته ؟ أتذكر كم هامت عليه ظلال قلبى ، وفى عينيه كم سبحت شراعى ؟
أرك نسيته ؟
قال القلم
( مستغرباً ) : يالكِ من عجيبة ! ! ألا تزلتِ تذكرينه ؟ ، لقد مرت عليه سنون طوال
! !
قالت : ما
نسيته قط ، وما غفلت عيناى عن صورته قط ، صورته معى منذ سنين ،أطالعها صباح مساء ،
أحدثها وتحدثنى وأبادلها النظرات ، صحيح هى ورقة وجماد ، ولكنها عندى عمر وحياة.
قال القلم
: ولكن هذا الوهم ، مضت عليه سنين ، ما عاد الزمن كما كان ، وما عادت الأيام كتلك
الأيام ، والعمر يمر وأنتِ بدون حياة ، قلبكِ خاوى وعقلك حيران ، وسماء حياتك سحب
وضباب ، وأنا ما عدت مثل زمان ، إنى أفرح كلما إقترب منكِ إنسان ، ولكنكِ توصدى كل
الأبواب ! !
قالت ( وهى
تتأوه ) : آه . . آه . . جرحى مازال ينزف ! ألمى ما زال يصاحبنى ! أنا لم أنسه قط
ولم تغفل عن صورته عيناى ! إن صورته ترافقنى ليل نهار ، وصباح مساء . .
قال القلم
: إنكِ واهمة . . إنه لم يكن يحبك ، ولم يكن حتى يدرك أنكِ تحبينه ! عن أى حب
تتكلمين ؟ أنتِ التى أحببته وحدكِ ! حبكِ له من طرف واحد ، أذكر أنى حذرتك من وهمك
، وعارضتُ حبكِ له ، وإستكثرتُ عليه كلماتك ، أنتِ حلمتِ بقربه ؟ نعم . . أملتى أن
تشاركيه حياته ؟ نعم . . ولكنه ما أحبكِ قط ، وما حلم بقربكِ قط ، وما شعر بحبكِ
قط . . ولكن تركك ورحل وتزوج غيرك ، وعاش مع أخرى وأحبها ، وأنجب منها بنين وبنات
، لقد مضى عنكِ وإنصرف ، لم يأبه لمشاعرك ، ولم يهتم لأمركِ ، كان حبكما من طرف
واحد هو أنتِ . . يقيناً أنتِ مريضة بالحب المَرضى ، وما تفعلينه إنتحار عبثى ، لا
طائل من ورائه سوى الموت والفناء . . أنتِ تعيشين نصف حياة ، بل ربع حياة ، لا ..
لا .. أنتِ تعيشين مثل الأموات . .
قالت ( وهى
ترجوه ) : أرجوك . . اسكت . . كلامك يؤلمنى ، يحزننى ، ينكأ كل جراحى ، ما عاد
لدىّ دم أنزفه ، جراحى ما زالت حية ، عباراتك جارحة ، وكلماتك قاسية لا ترحمنى .
قال القلم
: لا . . لن أسكت هذه المرة ، إنكِ تنتحرين ، إنكِ تقتلين نفسكِ ، قتلكِ نفسكِ
حرام حرام ، ألا يُحاسبكم الرب على قتل النفس ؟
قالت : بلى
. . يحاسبنا الرب ، ولكنى لا أملك من الأمر شيئاً . . لم أنساه ولم أسلاه ! !
قال القلم
: وقلبكِ . . ماذا عنه ؟
قالت :
قلبى ؟ . . أين قلبى ؟ إنه لم يعد قلباً ، إنه صار حُطاماً ، صار قبراً فيه وحشة ،
لا يصلح لأى شئ . . لا للحب ، ولا للسُكنى ! !
قال القلم
: ومن يا عزيزتى يترك القصور ليسكن القبور ؟ لا يسكن القبور إلا الأموات .
قالت :
أعرف . . أن لا أحد يسكن قلبى ، ولكن : ألم يدخله ساكن القصر ؟
قال القلم
: بلى دخله . . ولكنه خرج منه محمولاً على
الأعناق . . لقد رحل ومضى ، رحل إلى غير رجعة ، حبه لكِ أعمى عينيه عن مشهد قبركِ
، أحاله فى ناظريه قصراً ، وأصم أذنيه عن صرخة العصفور فى وجهه : " أترك هذا
القصر وإرحل فوراً ، القصر قصرها ، ولن تدعك تسكن فيه ، إنها تريده خَرِباُ ، دعها
تهدمه فوق رأسها " . . ولو أنى مكانه ، ما إقتربت منكِ أبداً ، ولكنه لم يكن
يدرى ، أن قلبكِ ما عاد قلباً ، وأن قصركِ ما عاد إلا قبراً . . ما عاد إلا قبراً
! !
قالت ( وهى
تتحسر ) : هل عرفت الآن لماذا أقسمت ألا أدعه يسكن قلبى ؟
قال القلم
: نعم عرفت . . ولكن ، أتذكرين ساعة أن كتبتِ له الرسالة ؟ أتذكرين ما قلته لكِ ؟
قالت : نعم
أذكر . . قلت لى ألا أخدعه ، وألا أدعه يحبنى ، لأنى لن أقدر أن أكون له ولن أسعده
. . . ولكنى كتبت له أنى أحبه ، ورجوته أن يدخل قلبى ويسكنه ، وقد دخل وسكن .
قال القلم
: وفى النهاية . . ماذا فعلتِ به ؟ لقد أقسمتِ ألا تدعيه يسكن قلبك ، وتركته يعيش
وحيداً فيه حتى مات ، ما ترفقتِ به ، وما حنوتِ عليه ، وما ملتِ إليه كما أراد ،
بل عذبته أشد العذاب ، وآلمتِه أشد الألم ، وأحزنته كل الحزن ، وكأنكِ كنتِ
تنتقمين منه . وها هو ترك لكِ الدنيا
ورحل.
قالت : نعم
. . لقد رحل وتركنى ، أنا من قسوت عليه كى يرحل ، لم أكن أدرى ماذا أفعل ، كنت
حائرة بينه وبين صورة الذى مضى ، كنت حين أنظر إليها تتهمنى بالخيانة ، وما رضيت
أن أخون ، أنت تعرفنى الوفاء من طبعى والإخلاص من شيمى ، ولا غدر منى ! ! ! !
!
قال القلم
: آه . . من تلك الصورة الملعونة ، هاتيها إلىّ كى أمزقها ، لقد رجوتكِ من قبل
مراراً أن تمزقيها ، وقلتِ لى أنكِ مزقتها ، إنها صورة باهتة ، مضت عليها سنين ،
إنها جماد لا حياة فيها أو معها ، إنها شبح لشخص ذهب وراح ، إنها لعنة ، يجب الخلاص
منها كى لا تظل تلاحقكِ .
قالت : دعك
عنى . . قلبى يتمزق . . أنت تذبحنى . . أنت تعلم كل نقاط ضعفى ، لقد قسوت علىّ ولا
ترحمنى ، رغم أنك تعلم عنى كل شئ ، وهم لا يعلمون عنى أى شئ .
قال القلم
: ومن أجل ذلك نصحتكِ ورجوتكِ ألا تفعلى مع ساكن القصر ما فعلته . . كنت أخشى أنكِ
ما عدتِ تصلحين للحياة . . لقد كبرتُ أنا وهرمت ، ولا أريد أن ينتهى بى العمر ،
وأرحل عنكِ ، وأترككِ هكذا فى الدنيا وحيدة . . إنى عِشتُ معكِ سنين طويلة ، عمرى
كله أمضيته معكِ.
قالت : وما
العمل أيها القلم العجوز ؟ أخبرنى ماذا أفعل ؟
قال القلم
( ناصحاً ) : أنفضى عنكِ تراب السنين ، مزقى الصورة وأحرقيها ، لا تتركِ نفسكِ لها
أسيرة ، إنها كالأغلال حول عنقكِ ، عيشى الحياة ولا تدعيها تمر امام عينيكِ ، حتى
ينقضى العمر بأكمله ، إنكِ لن تعيشى الحياة سوى مرة واحدة . . ما فات قد فات ، وما
مات قد مات ، والذى يفوت لا يعود ، والذى يموت لا يُبعث من جديد إلا يوم القيامة .
. أنتِ تعرفين كل هذا وتكابرين ، إنكِ تدفعين ثمن عنادكِ من أيامكِ وشهوركِ وسنين
عمرك ، إنكِ تدفعى أغلى الأثمان.
قالت : لقد
حاولت من قبل مراراً ، ولكنى عجزت . . أشعر أن شيئاً ما ينقصنى ، لست أدرى ما هو .
. أخبرنى أنت عنه ، فأنت تعرف الحياة أكثر منى ، عشت فيها سنين ، وأخبرت الكثير.
قال القلم
: إنها إرادة الحياة يا عزيزتى . . ذلك ما ينقصكِ ، لقد خلقكم الله يا بنى البشر ،
كى تنعموا وتسعدوا بأعماركم ، وسخر لكم الدنيا بأسرها ، لتكون طوع بنانكم . . فيكم
من أدرك ذلك فعاش وسَعد ، وفيكم من لم يدركه فشقىّ وتعَس ، ومات هو حى . .هل
تريدين الموت وأنتِ حية؟
قالت : لا
. . . لا أريد أن أموت وأنا حية ، أريد أن أعيش . . أريد الحياة . .
قال القلم
: إذن . . مزقى الصورة . . فكى الأغلال . . حَطمى القيود . . إهدمى الأسوار . .
دمرى كل الحصون والقلاع . . أقتلى الَسَجّان . . أخرجى للحياة . . إن الحياة جميلة
، إنها نعمة من الله . . إن ملائكة الرحمن يشتاقون للحياة مثلكم يا بنى البشر ! !
قالت (
متسائلة ) : من أين لك بكل هذه الكلمات أيها الخبير الفيلسوف ؟ كنت أحسبك مجرد قلم
؟
قال القلم
: لا . . أنا تعلمت من كثرة ما كتبتم بى ، وأنا مخلوق على الطاعة لكم ، لا أملك
أمراً ولا نهياً ، أكتب حين تريدون ، كل ما تريدون ، فخَبرتُ الكثير وعلمتُ الكثير
منكم وبكم .
قالت (
وكأنها تستدرجه ) : وماذا بعد أن أمزق الصورة وأفك الأغلال وأخرج للحياة ؟
قال القلم
:إنطلقى . . إفتحى أبواب قلبكِ ونوافذه . . دعيه يتنسم الهواء ، ويحيا الحب
والغرام .
قالت : أنت
تريدنى أحب من جديد ؟ وأعشق من جديد ؟ وأتألم من جديد ؟ وأتعذب من جديد ؟ . . تباً لك أيها القلم العجوزالمَكير ، إنك أحببت
ساكن القصر ، وإعتقدت أنى قتلته ، و تنتقم له منى !
وفجأة . .
أنهَت الحديث . . وهَبت واقفة . . وهى تقول بصوت عالى وجرئ ، وكأنها تعاند نفسها ،
وتتحدى كل العالم : لا . . لن أمزق الصورة ، ولن أفك الأغلال ، ولن أحطم القيود ،
ولن أهدم الأسوار ، ولن أدمر الحصون والقلاع ، ولن أفتح باب قلبى ونوافذه . . لقد
عشت هكذا سنين ، وسوف أبقى هكذا حتى يجئ الحين ، وأموت ، و سوف أموت ولن يدخل قلبى
أحد ، ولن يسكن قصرى أحد . . .
وبينما هى
تفتح باب غرفتها لتخرج ، سمعت صوت القلم وهو يقول : رحماك يا الله . . رحماك يا
الله . . إنها مثل ساكن القصر تماماً بتمام . . إنها تسعى للهلاك . . ولن تدرك
نصيحتى إلا بعد فوات الأوان . . ساكن القصر أصابته لعنة قصرها . . أما هى . . فأصابتها لعنة الحب الضائع .
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق