الغباء
السياسى . . . سمة الحكام العرب وقت الأزمات
! !
------------------------------------------------------
قال الله
تعالى فى كتابه العزيز: " . . . . . وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحَرث . . .
. . ففهمناها سليمان . . . . . . " صدق الله العظيم . . . فقد أنعم الله
سبحانه على سليمان عليه السلام رغم صغر سنه ، بنعمة الفهم والذكاء التى لم ينعم بها على أبيه
داود عليه السلام ، وكلاهما كان نبياً ورسولاً من عند الله .
إن الفهم
والذكاء هما نعمة من الله سبحانه وتعالى ، أنعم بها على البعض من عباده ، الذين
رضى عنهم وإختصهم وحدهم بعقول نابهة ومُستنيرة ، تقدر على التمييز والتحليل
والإستنتاج والتوقع وإستشراف المستقبل ، القريب كان أم البعيد .
والذكاء (
ذكاء العقل ) . . ليس نوعاً واحداً فقط ، وإنما هو أنواع متعددة ، حسب مجال
إعمال العقل وإحسان الفهم والذكاء ، فهناك الذكاء العلمى الذى يحتاج إليه طالب
العلم ، كى يُحسن تلقى العلم والإستفادة منه . . وهناك الذكاء الإجتماعى الذى
يُمّكن المرء من التعامل بلباقة مع غيره من الناس ، والتعايش الحسن وسط مجتمعه
المكون من الكبير والصغير ، والرجال والنساء ، ومن صنوف شتى من البشر . . وهناك
الذكاء الفنى الإبداعى ، والذكاء التجارى
الإقتصادى ، وغير ذلك من ألوان الذكاء المتعددة .
وما يهمنا
فى هذا المقام ، هو الذكاء السياسى وحده ، ذلك النوع من الذكاء الذى يتمتع
به قليلون ممن يعملون فى حقل السياسة ، التى هى فن الممكن وليست فن المستحيل ، أولئك
الذين يختلطون بالناس من أجل حل مشكلاتهم المصيرية ، ويتقدمون الصفوف لحمل راية
العمل السياسى العام ، وكلما إعتلى أحدهم درجة فى سُلم السياسة ، وبرزت صورته فى
المشهد السياسى ، كلما أصبح ذكاؤه السياسى أمراً ضرورياً وهاماً ، لتسيير شئون
البلاد والعباد .
والتاريخ
الإنسانى ملئ بالعديد والعديد من الزعماء والقادة ، الذين شهد لهم العالم بأسره
بالفطنة والذكاء ، وحُسن التصرف وسرعته ، فى تدبير الأمور والخروج من الأزمات
والشدائد التى واجهت الأمم والشعوب . . أما عن مصر ، فإن التاريخ المصرى
الحديث ، شهد بذلك النوع من الذكاء – الذكاء السياسى – للعديد من زعماء مصر
وقادتها ، ويأتى على رأسهم محمد على باشا ، باعث نهضة مصر الحديثة ، والزعيم سعد
باشا زغلول ، زعيم الأمة المصرية إبان الإحتلال البريطانى لمصر ، والزعيم مصطفى
كامل ، الذى كان شاباً وطنياً نابهاً ، مشهوداً
له بالذكاء والفطنة ، وهو مؤسس الحزب الوطنى الديمقراطى القديم . . ثم كانت ثورة
يوليو 1952التى برز من بين قادتها وضباطها ، إثنان شهد لهما جميع المصريين ،
بالذكاء السياسى والفطنة والدهاء ، فى إدارة شئون مصر وقضاياها . . إنهما الزعيمان
الخالدان / جمال عبد الناصر وأنورالسادات رحمهما الله ، بقدر عطائهما لمصر وشعبها ،
فقد سجل التاريخ لكليهما العديد من المواقف والآراء ، والفطنة والذكاء فى الخروج
من الأزمات .
إن جميع
المصريين . . يعلمون جيداً كيف تصرف الزعيم الخالد / جمال عبد الناصر ، وقت أن وقع
العدوان الثلاثى الغاشم على مصر عام 1956 ، بإتفاق ثلاث دول إستعمارية ، هى
إنجلترا وفرنسا ومعهما إسرائيل ، وكيف إستطاع عبد الناصر بذكائه السياسى الحاد
وفطنته اللامعة ، أن يحول الهزيمة العسكرية إلى نصر سياسى كبير ، وما كان لأحد
غيره أن يفعل مثلما فعل هو . . . أما السادات – رحمه الله – فقد كان زعيماً
وقائداً مُحنكاً ، ذو بصيرة نافذة وذكاء فطرى ، يُغلفه مكر ودهاء وخداع ، وإستطاع
السادات بذكائه ودهائه ، أن يخدع اليهود الصهاينة قتلة الأنبياء ، ومُراوغى سيدنا
موسى عليه السلام ، وأن يُرسخ فى يقينهم أن مصر قد إنتهى أمرها ، وأنها صارت جثة
هامدة لا تقوى على محاربتهم ، أو الدخول معهم فى مواجهة عسكرية ، بعد الهزيمة
النكراء والشنعاء ، والنكسة الحقيقية فى 5 يونيو 1967 . . وقد ساهم هذا الذكاء
وذاك المكر والدهاء ، فى إحداث نصر عسكرى مفاجئ ومروع ، على العدو الصهيونى فى
أكتوبر 1973 ، رغم تفوق الجيش الإسرائيلى فى العتاد والسلاح ، والقدرات
والإمكانيات ، ولكن السادات بذكائه السياسى الحاد ، أدرك أن شجاعة وبسالة الجندى
المصرى ، سوف تعوض فارق التسليح والعتاد ، وراهن السادات على ذلك ، وكان له ما
أراد ، وتحقق على يديه نصر أكتوبر العظيم . . . وبعد النصر العسكرى المحدود ، أيقن السادات ببصيرته النافذة ورؤيته
المستقبلية للأمور ، أن السير فى طريق السلام هو الطريق الأصوب لإسترداد باقى
سيناء الحبيبة ، وتحريرها من يد الغاصب والمستعمر الإسرائيلى ، وكان له أيضاً ما
أراد .
ثم كانت
أحداث 18 ، 19 يناير 1977 ، التى ثار فيها بعض من جماهير الشعب المصرى ، بتحريض من
القوى الشيوعية آنذاك ، ضد قرار الحكومة بزيادة أسعار بعض السلع الضرورية ،
وإنطلقت أحداث الشغب والفوضى ، فى عدة أماكن فى القاهرة وحدها ، وعلى الفور أيقن
الرجل بحسه السياسى المشهود له به ، وبذكائه الفطرى المعروف عنه ، وبحنكته وخبرته
وحُسن تصرفه ، أيقن حقيقة الأمور ، ولم يترك للزمام الفرصة كى يفلت من بين يديه ،
فقرر سريعاً التراجع عن قرارته فى هذا الشأن ، ليحمى البلاد من الفتنة ويسكب الماء
على النار ، فكان له ما أراد ، وهدات الأمور ، وعادت الحياة إلى طبيعتها .
أما اليوم
. . . فإننا نرى حفنة من الحكام العرب ، لم يهبهم الله نعمة الذكاء السياسى ، ولا
الفطنة ولا الحنكة ، وإنما إبتلاهم بنقمة الغباء السياسى ، وقصر النظر
ومحدودية الرؤية المستقبلية للأمور ، فثارت ضدهم الجماهير فى البلدان المختلفة ،
من أجل إصلاحات جذرية وضرورية فى أحوالهم المعيشية ، وفى حرياتهم العامة والخاصة .
. رأينا هتافات الجماهير ومطالبها فى بلدان الثورات العربية كلها ، تدور فى فلك
واحد ، وحول محور واحد ، وترمى إلى أهداف ثلاثة ثابتة ( عيش – حرية – عدالة
إجتماعية ) . . إنها الحدود الدنيا من حقوق الشعوب تجاه حكامهم الأغبياء ،
عديمى الفطنة والذكاء ، من سكنوا قصور الرئاسة ، وإحتلوا كراسى الحكم والسلطان ،
ثم داسوا على الشعوب بنعالهم ، إكتنزوا لأنفسهم ولذويهم ولبلاطهم وحاشياتهم كل
الثروات ، وما تركوا لشعوبهم إلا الفتات .
إنهم حكام
أغبياء . . ذات الأحداث وقعت فى تونس ، ثم تكررت فى مصر ، ثم تكررت فى اليمن ، ثم
تكررت فى ليبيا ، ثم هى الآن فى سوريا . . ذات الشعوب المقهورة المنهوبة والمسروقة
، ونفس المطالب بالإصلاح ، التى بدأت بمظاهرات سلمية ، وإنتهت بثورات شعبية ،
أطاحت بحكام أغبياء ، لا يعرفون إلا الحلول القمعية الأمنية ، ولا يفقهون شيئاً فى
سياسة الشعوب وكيفية مواجهة غضباتها العارمة . . واجه الحكام الأغبياء ، المظاهرات
السلمية بالقمع والضرب والقتل ، والزج فى السجون والمعتقلات ، وكانوا جميعاً
يتصرفون بأسلوب واحد قمعى ، وبفكر واحد ديكتاتورى ، وعقل واحد فى منتهى الغباء .
فى تونس
الشقيقة . . خرجت المظاهرات ترفع مطالب إصلاحية ، واجههم بن على ، الحاكم التونسى
الطاغية ، بعساكره وجنوده ، قتل منهم من قتل وجرح من جرح ، وما إستجاب لمطالبهم ،
حتى عمت المظاهرات كل شوارع تونس ، وأفلت الزمام ، وتحولت المظاهرات إلى ثورة شعبية
عارمة . . حينئذ فقط ، وقف بن على ، ليخاطب التونسيين بعد فوات الأوان ، قائلاً
لهم : " لقد فهمتكم وفهمت مطالبكم المشروعة ، وسوف أعمل . . . .وسوف
أعمل . . . وسوف أعمل . . . ، ولكن كان الأوان قد فات ، وهرب بن على مثل الفأر
خارج البلاد ، حاملاً معه المليارات من أموال الشعب التونسى ، بعد 23 يوماً فقط من
المظاهرات ، ونجحت الثورة التونسية ، ونجح الثوار .
وفى مصر . .
تكرر ذات الغباء السياسى ، وشاهدنا مرة أخرى ذات التبلد ، وعدم الإكتراث وعدم
الإهتمام ، فمع بداية المظاهرات فى ميدان التحرير ، يوم الخامس والعشرين من يناير ،
أعلن المتظاهرون أن مسيرتهم سلمية سلمية ، وأن مطالبهم إصلاحية ( عيش – حرية –
عدالة إجتماعية ) ، فخرج عليهم الطاغوت والطاغية حسنى مبارك – مثلما فعل بن على
تماماً – بوزير داخليته المجرم السفاح وعساكره وجنوده ، وأشبعوهم ضرباً وتنكيلاً
فى المساء ، ولم يلق مبارك الطاغية لطلباتهم بالاً ، وظن أنه قادر عليهم بطغيانه
وقمعه ، وخيل له غباؤه السياسى وقصر نظره وإنعدام رؤيته المستقبلية
، أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مؤامرة أجنبية من أطراف لها أجندة خارجية .
إزدات
أعداد المتظاهرين المصريين ، وزاد إصرارهم على تلبية مطالبهم الإصلاحية ، فى اليوم
الثانى ثم الثالث ، حتى بلغت ذروتها فى اليوم الرابع ( جمعة الغضب 28 يناير ) . .
تحولت خلالها المظاهرات إلى ثورة شعبية ، عمت كل ميادين وشوارع البلاد ، وشارك
فيها المصريون من كل الفئات ، وسقطت الشرطة المصرية ، ونزل الجيش المصرى إلى
الميادين للحفاظ على المنشآت العامة ، وإلتحم الجيش بالشعب ، وأفلت الزمام
من يد مبارك الطاغية ، بعد أن تخلى عنه أبناء الجيش المصرى المصريون ، فإضطر إلى
ترك حكم مصر مُجبراً ومُكرهاً ، بعد ثمانية عشر يوماً فقط من المظاهرات
المستمرة ، وها هو اليوم سجين خلف القضبان يلقى بعضاً – وليس كل – من جزاء ما
إقترفته يداه .
ذات
الأحداث ، وذات السيناريو والحوار ، وذات المظاهرات ، خرجت بعد ذلك فى اليمن ضد بن
صالح ، وفى ليبيا ضد القذافى راعى الإرهابي ، وأخيراً فى سوريا ضد ذلك البشار
السفاح . . . وللعجب العُجاب ، أننا نرى ذات الحكام ، يواجهون ذات المظاهرات
السلمية ، بذات الأساليب القمعية الأمنية ، وبذات الغباء السياسى ، الذى يؤجج
المظاهرات ، ويحيلها إلى ثورات شعبية عارمة ، تطيح بأولئك الحكام الأغبياء .
إن الذكاء
السياسى . . لهو نعمة كبرى من الله – سبحانه وتعالى – ينعم بها على من أحب من
عباده ، من القادة والزعماء . . أما الغباء السياسى ، فهو لا شك نقمة ، إبتلى الله
بها حكامنا العرب ، الطغاه البلهاء الأغبياء . . كان فى مقدور كل منهم ، أن يسكب
الماء على النار، كى يقى البلاد شر الحريق والدمار ، مثلما فعل السادات رحمه الله
، ومثلما فعل عاهل المملكة العربية السعودية الملك عبد الله . . ولكنهم ما فعلوا
ذلك ، لأن الله حرمهم من نعمة الذكاء ، وإبتلاهم بدلاً منها بنعمة الغباء . . .
ولكن فى هذه المرة ، كان غباؤهم سياسياً . . رحم الله عبد الناصر والسادات . . أما
مبارك . . . . . . . . . . . . . . . ! ! ! ! وإلى مقال آخر إن شاء الله
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق