أسير
الياسمين . . . . . . . . . . ! !
--------------------------------
فى إحدى
لقاءاتنا العديدة . . أنا وفتاتى . . جلسنا سوياً نتجاذب أطراف الحديث ، لقد إعتاد
كل منا على أن يُفضى للآخر بكل ما يجول بخاطره . . تحدثنى هى عما جرى لها فى
الأيام الماضية ، منذ أن وَدع كلانا الآخر ، فى آخر لقاء لنا ، تخبرنى : ماذا فعلت
؟ وماذا قالت ؟ وأين ذهبت ؟ ومع من تحدثت ؟ وماذا أكلت وشربت ؟ ومتى نامت وكيف
نهضت ، تحدثنى عن كل شئ من الصغير إلى الكبير . . ثم تسألنى عن أحوالى : ما حدث لى
منذ وداعنا ؟ وما يحدث لى الآن ؟ . . كنا نقتطع لأنفسنا لحظات من الزمان ، نُسّرى
فيها عنا ، ويُعطى كلانا الآخر زاداً ويقيناً ، وحلماً وأملاً ، فى مستقبل أكثر سعادة
وهناء .
وبينما كنا
نتبادل الحديث والكلمات ، فاجأتنى فتاتى بسؤال لم أكن أتوقعه فى حينها . . لقد
إلتقينا كثيراً ، وتحاورنا كثيراً ، وتحدثنا فى كل شئ ، إلا ذلك الأمر ، لم نتحدث
عنه قط ، ولم يخطر ببالى يوماً ، أن فضولها سوف ينحو بها ذلك المنحى من الحديث ،
الذى كان بعيداً عن مُخيلتى كل البعد . . فاجأتنى فتاتى بسؤالها :
قالت ( وهى
تسأل ) : كم مر من الأيام والشهور منذ أن تعارفنا يا عزيزى ؟
قلت :
إنقضت أيام كثيرة ، ومضت شهور عديدة .
قالت :
وفيما كنا نتحدث طوال لقاءاتنا الماضية ؟
قلت :
تحدثنا فى الكثير ، تحدثنا فى كل شئ وأى شئ ، لم نترك أمراً إلا وتحدثنا فيه .
قالت : لا
يا عزيزى . . هناك أمر لم نتحدث عنه قط . . لم يخطر ببالى ولا ببالك أن نتحدث عنه.
قلت ( وأنا
حسن النية ) : أى أمر هذا لم نتحدث عنه ؟ لقد إشتكت منا الكلمات ، وتظلمت العبارات
، وتضررت الحروف ، من كثرة أحاديثنا .
قالت : أم
يخطر فى بالك يوماً أن تحدثنى عنها ؟
قلت :
أحدثكِ عمن ؟ من تريدين منى الحديث عنها ؟
قالت (
بحماس ) : حدثنى عن حب عمرك . . التى ما أحببت قبلها ولم تحبب بعدها .
قلت : يا
لكِ من ماكرة ! ! تريدين الإيقاع بى ، ثم تذبحيننى بسكين لومك ، وتريقين دماء
وصالك
قالت ( وهى
تطمئننى ) : لا تظن بى سوءً . . مابيننا لا يقطعه حديث . . إطمئن وحدثنى .
قلت : لقد
عرفت من النساء الكثير ، وإقتربت من الكثير ، وحادثت الكثير ، وأعجبنى الكثير .
قالت ( وهى
تبتسم ) : لا تراوغنى يا عزيزى . . أنت تعرف مقصدى .
قلت : أرى
فى عينيكِ يا فتاتى كيد النساء ومكرهن ! !
قالت : إذن
. . أنت تفهمنى . . وتفهم ماذا أعنى . . أخبرنى ولا تراوغنى . . فلن أدعك إلا إذا
أخبرتنى عنها ، وبكل صراحة وصدق .
قلت : وما
بالكِ تصرين هكذا ؟ أراكِ تخاطرين بسماع مالا تطيقين ، ثم تلقين على باللائمة .
قالت (
مُبررة ) : هو حب الفضول عندى . . أحياناً يتملكنى . . ولا أملك أن أقاومه .
قلت (
ناصحاً ) : ولكن الله أمرنا . . ألا نسأل عما قد يؤلمنا . . ألم تقرأى قوله تعالى
: " يأيها الذين آمنوا ، لا تسألوا عن أمور ، إن تبدُ لكم تسوؤكم " صدق
الله العظيم ؟ ؟ ؟
قالت (
والفضول يقتلها ) : نعم قرأت . . ولكنك بكلماتك هذه ، زدت فضولى . . حدثنى عنها
حدثنى ولا تخف . . إنها صارت من الماضى . . وإنى لك مُنصِتة .
قلت ( وأنا
آمن ) : لقد قابلتها وعرفتها وأحببتها منذ سنين . . حين رأتها عيناى ، شعرت أننى
وكأنما لم أرى النساء من قبل . . عشقتها عيناى قبل أن تسمع صوتها أذناى . . ولما
سمعتها نسيت أنى قد طربت من قبلها لأحلى الأصوات . . إبتسامتها كانت ساحرة ،
وهدوؤها كان يقتلنى . . لقد مِتُ وحَييت مئات المرات . . كان جمالها صارخاً ،
وأنوثتها طاغية على كل النساء . . عشت معها وبها ولها أحلى أيام عمرى ، وسنوات
سنينى . . وما زلت أحيا على ذكرى حبها .
قالت (
مُستزيدة ) : حدثنى عن عقلها ، وعن فكرها . . حدثنى عن ذكائها . . أعرف أنك لا
يكفيك الجمال وحده . . فالمرأة عندك شِطران ، شطر جمال وشطر ذكاء .
قلت : كان
لها عقلاً وفكراً ، وحكمة ورزانة ، ما شهدتهم فى أقرانها قط . . ذكاؤها كان يشع من
عينيها ، وكانت تتلمح كلماتى سريعاً ، وقبل أن ينطق بها لسانى . . كانت نابهة ولها
بديهة حاضرة . . لم يضق صدرى ولا عقلى بها ذات مرة ، وكانت حواراتنا من نوع خاص
جداً . . بعضها تغلفه المشاعر والأحاسيس ، وبعضها حديث العقول والأفكار . . كثيراً
ما تحاورنا ، ونادراً ما إختلفنا . . أحببت فيها ذكاءها مع جمالها ، فأنا أكره من
النساء الحمقى ، ومن الرجال الأغبياء ، ومن الصبية الأشقياء .
قالت :
أراك رافقتها طويلاً . . أليس كذلك ؟ ؟
قلت :
رافقتها بالقرب ثلاث سنوات ، لكنها بعد أن وَدعتنى ومضت لم تفارقنى قط . . لم
تفارق قلبى ولا عقلى ولا فكرى ولا كل كيانى . . خمسة عشر عاماً مضت ، ولا زلت
أذكرها ، وأذكر كل شئ فيها ، وأذكر كل ما جمعنا ، وأذكر نظرات عينيها إلىّ ، وأذكر
حديثها معى ، وأذكر همسها إلىّ ولمسات يديها ليداى ، كما لو أننى لم أفارقها إلا
بالأمس ! !
قالت ( وهى
تهز رأسها ) : ألهذا الحد هى تسكنك ؟ وتسكن أعماقك ، وعقلك وفؤادك ؟ ؟
قلت (
مؤكداً ) : أعجبنى تعبيرك . . إنها حقاً تسكننى . . وتسكن كل وجدانى وكيانى .
قالت : ألم
تختلفا يوماً قط ، مثلما يحدث بيننا الآن ؟
قلت : لا .
. والله لم نختلف يوماً قط . . لقد
أخبرتكِ أنها كانت عاقلة ورزينة وهادئة ، فمن أين يأتى الخلاف ؟ مثلها لا يُجيد
الشجار ، وتسعى دائماً للوفاق والإتفاق . . ولا تسعى أبداً للخلاف والإختلاف . .
نعم إختلفت أحياناً آراؤنا ، وكنا نُحكِم عقولنا ، إما أن تعود هى إلىّ أو أعود
أنا إليها ، الأهم ألا نفترق ، وألا ندع بيننا مسافات ، وألا يضيع كلانا من الآخر
. . كانت تنصت لى كثيراً لتتعلم منى الكثير ، فقد كانت تصغرنى بإثنى عشر عاماً ،
وهى سنوات فى تجارب الحياة طويلة . . لم تكن عاندنى قط ، ولا تشاجرنى قط ، ولا
تنازعنى قط . . الم أقل أنها كانت عاقلة ؟
قالت : وما
الذى فرق بينكما إذن ؟ أهو الإختلاف بينكما ؟ أم إختلاف الزمان ؟ أم أنها سنة
الحياة ، التى قد تفرق بين الأصحاب والأحباب ؟
قلت ( وأنا
حزين ) : إنها إرادة الله يا عزيزتى . . شاءت الأقدار ألا تجمعنا حياة واحدة . .
وما لنا مع الأقدار حِيلة . . ألم تقرأى الحديث القدسى عن رب العزة أنه قال :
من لم يرض بقضائى . . . . . . . . .ولم يصبر على بلائى
فليخرج من تحت سمائى . .
. . وليبحث له عن رب سواى .
قالت ( وهى
تلِح ) : ألا تريد أن تخبرنى بسبب فراقكما ؟
قلت : أود
لو إحتفظت بسره لنفسى . فهو أمر لا يخصنى وحدى . . وليس كل ما يعرفه المرء يقله
قالت : ولا
أنا ؟ ؟
قلت : ولا
أنتِ يا فتاتى ! !
قالت (
مُتبرمة ) : لك ما أردت . . ولكنك لم تخبرنى من تكون هى ؟ ولا حتى أسمها ؟
قلت : إنها
أحب الزهور إلى نفسى ، وأعطر الورود فى أجمل البساتين . . إنها زهرة الياسمين !
قالت ( وهى
تصرخ ) : أمن أجل ذلك أسميت بطلات قصصك كلهن بإسمها ؟
قلت : أنا
لا أرى سوى وجهها الجميل ، ولا أهيم إلا فى عينيها الخضراوتين ، ولا أسمع صوتاً
سواها الناعم الرقيق ، ولا أرغب سوى فى القرب منها . . ما زالت تحتوينى حتى فى
بعدها عنى ، ما احتوتنى إمرأة قط مثلما إحتوتنى هى بين ذراعيها . . عشت معها أجمل
لحظات عمرى ، وفى جوارها نِلت راحة بالى وهنائى . . إنى صرت أسيرها وهى غائبة عنى
! !
قالت : إذن
. . ما حاجتك لى يا أسير الياسمين ؟
قلت (
مُهدئاً ) : هى من الماضى . . أما أنتِ ، فأنتِ الحاضر والمستقبل . . أنتِ اليوم
وغداً وبعد غد . . بينما كانت هى الأمس .
قالت (وهى
تتألم ) : عن أى حاضر تتحدث ؟ وعن أى مستقبل تتكلم ؟ وأنت مازلت تعيش الماضى ،
والماضى يسكن فيك ، وفى أعماقك .
قلت :
حاضرنا سوياً . . ومستقبلنا معاً ! !
قالت : إنك
إعترفت لى بأنك أسيرها بعد ما ذهبت عنك . تعيش فى ذكراها ، وتسكن هى أعماقك.
قلت :
العمر سنين . . والحياة مراحل يا فتاتى . . والمرء منا يقابل فى حياته من الناس
الكثير . . ولكل مرحلة من العمر أحوالها وناسها . . أفلا تكونى عاقلة وحكيمة كما
كانت ؟
قالت (
والدموع فى عينيها ) : تريدنى مثلها ؟ وهل أطيق أنا ذلك ؟ وأى عقل تطلب منى ؟ وأى
حكمة ترغب فيها ؟ بعد كل ما حدثتنى عنه ؟
قلت (
مُعاتباً ) : ألم تطلبى أنتِ الحديث عنها ؟ وتلحى فى معرفة المزيد ؟ألم أحذركِ منذ
البداية ؟
قالت :
ولكنك الآن أخبرتنى . . وأسهبت فى الحديث عنها وكأنك تستعذبه . فلا تلومن إلا نفسك
!
قلت ( وأنا
أتعجب ) : إنكِ فعلتِ بى مثلما يفعل الشيطان يا عزيزتى . . يدعو الناس إلى الهلاك
، ثم إذا هَلكوا تبرأ مما يفعلون . . ألم تقرأى قول الله تعالى : " . . . .
وإذ قال الشيطان للإنسان أكفر ، فلما كفر ، قال إنى برئ منك ، إنى أخاف الله رب
العالمين " صدق الله العظيم . . وألم تقرأى قوله تعالى : " . . . . ولما
قضُى الأمر، قال الشيطان إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى
عليكم من سلطان ، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى ، فلا تلومونى ولوموا أنفسكم "
صدق الله العظيم ؟ ؟ ؟
قالت ( وقد
أدركت حقيقة ما فعلت ) : وها أنا أقولها لك . . ما كان لك ولا عليك أن تطيعنى فيما
طلبت منك . . اما وقد فعلتها وأطعتنى ، فلا تلُمنى ولوم نفسك يا عزيزى ! !
قلت :
وماذا بعد يا فتاتى ؟ قالت : أفبعد ما تحدثت عنه بَعد؟ أو بَعد ما حطمت به فؤادى بَعد
؟ أو بَعد ما أثرت شكوكى فى حبك لى بَعد ؟ أو بَعد ما صارحتنى بأنى لا أسكنك بَعد
؟
قلت (
متوسلاً ) : ولكننى أريدكِ معى . . وأريدكِ فى حياتى ! !
قالت : عن
أية حياة تتحدث ؟ أتخدع نفسك أم تخدعنى ؟ أنا لا مكان لى فى حياتك . . إنها الماضى
وأنت أسيرها . . أما قلت لى عدة مرات أن الحاضر إبن الماضى ؟ وأنت يا عزيزى أسير
الماضى . . أما كتبتها فى قصتك عن صاحبة القصر؟ صاحبة القصرولعنة الحب الضائع
" دعك منى كى لا تحطم حياتى . . أنا لست أسيرة الماضى . . أنا بنت الحاضر
والمستقبل . . أما أنت فلن تغادر الماضى ما حييت أبداً .
شردَ ذهنى
بعيداً عنها لحظات قليلة . . عاد بى الزمن إلى الوراء . . وطال بى الشرود ، فذهب
بى إلى حيث الذكريات مع زهرة الياسمين . . عاد بى إلى سنوات مضت لأرى وجهها الجميل
وهى تبتسم لى وأبتسم لها ، وتحدثنى وأحدثها ، وتمازحنى وأمازحها ، وأنظر فى عينيها
فلا تغلقهما حتى أهيم فيهما .
وفجأة . .
إنتبهت إلى واقعى . . نظرت أمامى لم أجد فتاتى . . لقد غادرت وتركتنى مع ياسمينتى
، فى عالم الماضى الذى لم أغادره حتى اليوم . . لقد أدركت فتاتى الحقيقة التى لم
أدركها . . أدركت أنها مهما إقتربت منى فلن تسكن قلبى . . لأن قلبى ساكنته لا تزال
بداخله . . وأدركت أننى أعشق الأسر فى حب الماضى ، الذى لم تحررنى من أغلاله
السنوات الطوال . . إنها أدركت اليقين ، حين تأكد لها أنى أسير الياسمين ! !
! وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق