الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

أسير الياسمين . . . . . . ! !


 أسير الياسمين . . . . . . . . . .  ! !
--------------------------------

فى إحدى لقاءاتنا العديدة . . أنا وفتاتى . . جلسنا سوياً نتجاذب أطراف الحديث ، لقد إعتاد كل منا على أن يُفضى للآخر بكل ما يجول بخاطره . . تحدثنى هى عما جرى لها فى الأيام الماضية ، منذ أن وَدع كلانا الآخر ، فى آخر لقاء لنا ، تخبرنى : ماذا فعلت ؟ وماذا قالت ؟ وأين ذهبت ؟ ومع من تحدثت ؟ وماذا أكلت وشربت ؟ ومتى نامت وكيف نهضت ، تحدثنى عن كل شئ من الصغير إلى الكبير . . ثم تسألنى عن أحوالى : ما حدث لى منذ وداعنا ؟ وما يحدث لى الآن ؟ . . كنا نقتطع لأنفسنا لحظات من الزمان ، نُسّرى فيها عنا ، ويُعطى كلانا الآخر زاداً ويقيناً ، وحلماً وأملاً ، فى مستقبل أكثر سعادة وهناء .
وبينما كنا نتبادل الحديث والكلمات ، فاجأتنى فتاتى بسؤال لم أكن أتوقعه فى حينها . . لقد إلتقينا كثيراً ، وتحاورنا كثيراً ، وتحدثنا فى كل شئ ، إلا ذلك الأمر ، لم نتحدث عنه قط ، ولم يخطر ببالى يوماً ، أن فضولها سوف ينحو بها ذلك المنحى من الحديث ، الذى كان بعيداً عن مُخيلتى كل البعد . . فاجأتنى فتاتى بسؤالها :

قالت ( وهى تسأل ) : كم مر من الأيام والشهور منذ أن تعارفنا يا عزيزى ؟
قلت : إنقضت أيام كثيرة ، ومضت شهور عديدة .
قالت : وفيما كنا نتحدث طوال لقاءاتنا الماضية ؟
قلت : تحدثنا فى الكثير ، تحدثنا فى كل شئ وأى شئ ، لم نترك أمراً إلا وتحدثنا فيه .
قالت : لا يا عزيزى . . هناك أمر لم نتحدث عنه قط . . لم يخطر ببالى ولا ببالك أن نتحدث عنه.
قلت ( وأنا حسن النية ) : أى أمر هذا لم نتحدث عنه ؟ لقد إشتكت منا الكلمات ، وتظلمت العبارات ، وتضررت الحروف ، من كثرة أحاديثنا .
قالت : أم يخطر فى بالك يوماً أن تحدثنى عنها ؟
قلت : أحدثكِ عمن ؟ من تريدين منى الحديث عنها ؟
قالت ( بحماس ) : حدثنى عن حب عمرك . . التى ما أحببت قبلها ولم تحبب بعدها .
قلت : يا لكِ من ماكرة ! ! تريدين الإيقاع بى ، ثم تذبحيننى بسكين لومك ، وتريقين دماء وصالك
قالت ( وهى تطمئننى ) : لا تظن بى سوءً . . مابيننا لا يقطعه حديث . . إطمئن وحدثنى .
قلت : لقد عرفت من النساء الكثير ، وإقتربت من الكثير ، وحادثت الكثير ، وأعجبنى الكثير .
قالت ( وهى تبتسم ) : لا تراوغنى يا عزيزى . . أنت تعرف مقصدى .
قلت : أرى فى عينيكِ يا فتاتى كيد النساء ومكرهن ! !
قالت : إذن . . أنت تفهمنى . . وتفهم ماذا أعنى . . أخبرنى ولا تراوغنى . . فلن أدعك إلا إذا أخبرتنى عنها ، وبكل صراحة وصدق .
قلت : وما بالكِ تصرين هكذا ؟ أراكِ تخاطرين بسماع مالا تطيقين ، ثم تلقين على باللائمة .
قالت ( مُبررة ) : هو حب الفضول عندى . . أحياناً يتملكنى . . ولا أملك أن أقاومه .
قلت ( ناصحاً ) : ولكن الله أمرنا . . ألا نسأل عما قد يؤلمنا . . ألم تقرأى قوله تعالى : " يأيها الذين آمنوا ، لا تسألوا عن أمور ، إن تبدُ لكم تسوؤكم " صدق الله العظيم ؟ ؟ ؟
قالت ( والفضول يقتلها ) : نعم قرأت . . ولكنك بكلماتك هذه ، زدت فضولى . . حدثنى عنها حدثنى ولا تخف . . إنها صارت من الماضى . . وإنى لك مُنصِتة .
قلت ( وأنا آمن ) : لقد قابلتها وعرفتها وأحببتها منذ سنين . . حين رأتها عيناى ، شعرت أننى وكأنما لم أرى النساء من قبل . . عشقتها عيناى قبل أن تسمع صوتها أذناى . . ولما سمعتها نسيت أنى قد طربت من قبلها لأحلى الأصوات . . إبتسامتها كانت ساحرة ، وهدوؤها كان يقتلنى . . لقد مِتُ وحَييت مئات المرات . . كان جمالها صارخاً ، وأنوثتها طاغية على كل النساء . . عشت معها وبها ولها أحلى أيام عمرى ، وسنوات سنينى . . وما زلت أحيا على ذكرى حبها .
قالت ( مُستزيدة ) : حدثنى عن عقلها ، وعن فكرها . . حدثنى عن ذكائها . . أعرف أنك لا يكفيك الجمال وحده . . فالمرأة عندك شِطران ، شطر جمال وشطر ذكاء .
قلت : كان لها عقلاً وفكراً ، وحكمة ورزانة ، ما شهدتهم فى أقرانها قط . . ذكاؤها كان يشع من عينيها ، وكانت تتلمح كلماتى سريعاً ، وقبل أن ينطق بها لسانى . . كانت نابهة ولها بديهة حاضرة . . لم يضق صدرى ولا عقلى بها ذات مرة ، وكانت حواراتنا من نوع خاص جداً . . بعضها تغلفه المشاعر والأحاسيس ، وبعضها حديث العقول والأفكار . . كثيراً ما تحاورنا ، ونادراً ما إختلفنا . . أحببت فيها ذكاءها مع جمالها ، فأنا أكره من النساء الحمقى ، ومن الرجال الأغبياء ، ومن الصبية الأشقياء .
قالت : أراك رافقتها طويلاً . . أليس كذلك ؟ ؟
قلت : رافقتها بالقرب ثلاث سنوات ، لكنها بعد أن وَدعتنى ومضت لم تفارقنى قط . . لم تفارق قلبى ولا عقلى ولا فكرى ولا كل كيانى . . خمسة عشر عاماً مضت ، ولا زلت أذكرها ، وأذكر كل شئ فيها ، وأذكر كل ما جمعنا ، وأذكر نظرات عينيها إلىّ ، وأذكر حديثها معى ، وأذكر همسها إلىّ ولمسات يديها ليداى ، كما لو أننى لم أفارقها إلا بالأمس  ! !
قالت ( وهى تهز رأسها ) : ألهذا الحد هى تسكنك ؟ وتسكن أعماقك ، وعقلك وفؤادك ؟ ؟
قلت ( مؤكداً ) : أعجبنى تعبيرك . . إنها حقاً تسكننى . . وتسكن كل وجدانى وكيانى .
قالت : ألم تختلفا يوماً قط ، مثلما يحدث بيننا الآن ؟
قلت : لا . . والله لم نختلف يوماً قط  . . لقد أخبرتكِ أنها كانت عاقلة ورزينة وهادئة ، فمن أين يأتى الخلاف ؟ مثلها لا يُجيد الشجار ، وتسعى دائماً للوفاق والإتفاق . . ولا تسعى أبداً للخلاف والإختلاف . . نعم إختلفت أحياناً آراؤنا ، وكنا نُحكِم عقولنا ، إما أن تعود هى إلىّ أو أعود أنا إليها ، الأهم ألا نفترق ، وألا ندع بيننا مسافات ، وألا يضيع كلانا من الآخر . . كانت تنصت لى كثيراً لتتعلم منى الكثير ، فقد كانت تصغرنى بإثنى عشر عاماً ، وهى سنوات فى تجارب الحياة طويلة . . لم تكن عاندنى قط ، ولا تشاجرنى قط ، ولا تنازعنى قط . . الم أقل أنها كانت عاقلة ؟
قالت : وما الذى فرق بينكما إذن ؟ أهو الإختلاف بينكما ؟ أم إختلاف الزمان ؟ أم أنها سنة الحياة ، التى قد تفرق بين الأصحاب والأحباب ؟
قلت ( وأنا حزين ) : إنها إرادة الله يا عزيزتى . . شاءت الأقدار ألا تجمعنا حياة واحدة . . وما لنا مع الأقدار حِيلة . . ألم تقرأى الحديث القدسى عن رب العزة أنه قال :
                        من لم يرض بقضائى  . . . . . . . . .ولم يصبر على بلائى
                        فليخرج من تحت سمائى . . . . وليبحث له عن رب سواى .
قالت ( وهى تلِح ) : ألا تريد أن تخبرنى بسبب فراقكما ؟
قلت : أود لو إحتفظت بسره لنفسى . فهو أمر لا يخصنى وحدى . . وليس كل ما يعرفه المرء يقله
قالت : ولا أنا ؟ ؟
قلت : ولا أنتِ يا فتاتى ! !
قالت ( مُتبرمة ) : لك ما أردت . . ولكنك لم تخبرنى من تكون هى ؟ ولا حتى أسمها ؟
قلت : إنها أحب الزهور إلى نفسى ، وأعطر الورود فى أجمل البساتين . . إنها زهرة الياسمين !
قالت ( وهى تصرخ ) : أمن أجل ذلك أسميت بطلات قصصك كلهن بإسمها ؟
قلت : أنا لا أرى سوى وجهها الجميل ، ولا أهيم إلا فى عينيها الخضراوتين ، ولا أسمع صوتاً سواها الناعم الرقيق ، ولا أرغب سوى فى القرب منها . . ما زالت تحتوينى حتى فى بعدها عنى ، ما احتوتنى إمرأة قط مثلما إحتوتنى هى بين ذراعيها . . عشت معها أجمل لحظات عمرى ، وفى جوارها نِلت راحة بالى وهنائى . . إنى صرت أسيرها وهى غائبة عنى ! !
قالت : إذن . . ما حاجتك لى يا أسير الياسمين ؟
قلت ( مُهدئاً ) : هى من الماضى . . أما أنتِ ، فأنتِ الحاضر والمستقبل . . أنتِ اليوم وغداً وبعد غد . . بينما كانت هى الأمس .
قالت (وهى تتألم ) : عن أى حاضر تتحدث ؟ وعن أى مستقبل تتكلم ؟ وأنت مازلت تعيش الماضى ، والماضى يسكن فيك ، وفى أعماقك .
قلت : حاضرنا سوياً . . ومستقبلنا معاً ! !
قالت : إنك إعترفت لى بأنك أسيرها بعد ما ذهبت عنك . تعيش فى ذكراها ، وتسكن هى أعماقك.
قلت : العمر سنين . . والحياة مراحل يا فتاتى . . والمرء منا يقابل فى حياته من الناس الكثير . . ولكل مرحلة من العمر أحوالها وناسها . . أفلا تكونى عاقلة وحكيمة كما كانت ؟
قالت ( والدموع فى عينيها ) : تريدنى مثلها ؟ وهل أطيق أنا ذلك ؟ وأى عقل تطلب منى ؟ وأى حكمة ترغب فيها ؟ بعد كل ما حدثتنى عنه ؟
قلت ( مُعاتباً ) : ألم تطلبى أنتِ الحديث عنها ؟ وتلحى فى معرفة المزيد ؟ألم أحذركِ منذ البداية ؟
قالت : ولكنك الآن أخبرتنى . . وأسهبت فى الحديث عنها وكأنك تستعذبه . فلا تلومن إلا نفسك !
قلت ( وأنا أتعجب ) : إنكِ فعلتِ بى مثلما يفعل الشيطان يا عزيزتى . . يدعو الناس إلى الهلاك ، ثم إذا هَلكوا تبرأ مما يفعلون . . ألم تقرأى قول الله تعالى : " . . . . وإذ قال الشيطان للإنسان أكفر ، فلما كفر ، قال إنى برئ منك ، إنى أخاف الله رب العالمين " صدق الله العظيم . . وألم تقرأى قوله تعالى : " . . . . ولما قضُى الأمر، قال الشيطان إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان ، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى ، فلا تلومونى ولوموا أنفسكم " صدق الله العظيم ؟ ؟ ؟
قالت ( وقد أدركت حقيقة ما فعلت ) : وها أنا أقولها لك . . ما كان لك ولا عليك أن تطيعنى فيما طلبت منك . . اما وقد فعلتها وأطعتنى ، فلا تلُمنى  ولوم نفسك يا عزيزى ! !
قلت : وماذا بعد يا فتاتى ؟ قالت : أفبعد ما تحدثت عنه بَعد؟ أو بَعد ما حطمت به فؤادى بَعد ؟ أو بَعد ما أثرت شكوكى فى حبك لى بَعد ؟ أو بَعد ما صارحتنى بأنى لا أسكنك بَعد ؟
قلت ( متوسلاً ) : ولكننى أريدكِ معى . . وأريدكِ فى حياتى ! !
قالت : عن أية حياة تتحدث ؟ أتخدع نفسك أم تخدعنى ؟ أنا لا مكان لى فى حياتك . . إنها الماضى وأنت أسيرها . . أما قلت لى عدة مرات أن الحاضر إبن الماضى ؟ وأنت يا عزيزى أسير الماضى . . أما كتبتها فى قصتك عن صاحبة القصر؟ صاحبة القصرولعنة الحب الضائع " دعك منى كى لا تحطم حياتى . . أنا لست أسيرة الماضى . . أنا بنت الحاضر والمستقبل . . أما أنت فلن تغادر الماضى ما حييت أبداً .

شردَ ذهنى بعيداً عنها لحظات قليلة . . عاد بى الزمن إلى الوراء . . وطال بى الشرود ، فذهب بى إلى حيث الذكريات مع زهرة الياسمين . . عاد بى إلى سنوات مضت لأرى وجهها الجميل وهى تبتسم لى وأبتسم لها ، وتحدثنى وأحدثها ، وتمازحنى وأمازحها ، وأنظر فى عينيها فلا تغلقهما حتى أهيم فيهما .

وفجأة . . إنتبهت إلى واقعى . . نظرت أمامى لم أجد فتاتى . . لقد غادرت وتركتنى مع ياسمينتى ، فى عالم الماضى الذى لم أغادره حتى اليوم . . لقد أدركت فتاتى الحقيقة التى لم أدركها . . أدركت أنها مهما إقتربت منى فلن تسكن قلبى . . لأن قلبى ساكنته لا تزال بداخله . . وأدركت أننى أعشق الأسر فى حب الماضى ، الذى لم تحررنى من أغلاله السنوات الطوال . . إنها أدركت اليقين ، حين تأكد لها أنى أسير الياسمين ! ! !      وإلى مقال آخر إن شاء الله .   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق