إنها
قرة عينى . . . . . . وكل حياتى ! !
------------------------------------
ذات مساء
قريب . . أحسست أننى فى الحياة وحيد ، وفجأة إنتابنى شعور بالرغبة فى الخروج إلى
الناس ، والحديث معهم . . إرتديت ملابسى ، وتأنقت ، وتعطرت ، ثم خرجت إلى الشارع ،
لا أعرف أين وجهتى ، تركت قدماى تقودانى إلى حيث تريدان ، مشيت ومشيت نحو أطراف
المدينة ، حيث الهدوء يعم ، والنسيم طيب وعليل . . الناس فى مدينتنا جميعاً
يهرولون إلى خارج المدينة ، فى أماكن خضراء فسيحة ، لقضاء بعض الأوقات السعيدة ،
بعيداً عن الضوضاء والضجيج . . أخذتنى قدماى إلى أحد هذه الأماكن ، جلست وحدى
بعيداً ، أرقب الناس من حولى ، يضحكون ويمرحون فى هدوء ، دقائق وجاءنى شخص يسألنى
ماذا أريد أن أحتسى ؟ طلبت كوباً من الشاى أؤنس به وحدتى ، دقائق أخرى وأحضر ذات
الشخص ما طلبته ، ووضعه أمامى وإنصرف . . مرت لحظات وأنا أستمتع بوجودى بين الناس
، فى ذلك المكان الفسيح .
وفجأة . .
إقتربت منى سيدة ، فى منتصف الثلاثينات من عمرها ، على قدر من الجمال ، رشيقة
ومتأنقة ، تبدو عليها علامات الراحة والهناء ، كانت بمفردها ، ألقت علىّ بالتحية
فرددتها ، إستأذنت فى الجلوس بالمقعد الذى أمامى ، فأذنت لها ، جلست ثم نظرت إلىّ
وكأنها تعرفنى ، أنا لا أعرفها ، ولكن يبدو أنها تعرفنى ، وقد قصد ت الجلوس معى
والحديث إلىّ . . ولم تمر دقائق ، حتى بادرتنى بالقول :
قالت (
بهدوء ) سائلة : ألست هو أنت؟
قلت: أنا !
! ماذا تقصدين ؟
قالت :
أقصدك أنت . . أنت صاحب الكلمات .
قلت
متسائلاً : أى كلمات تقصدين ؟
قالت :
كلمات الحب والغرام والهيام . .
قلت (
متعجباً ) : كما تريدين ! !
قالت (
مؤكدة ) : لا . . إنك هو . . أعرفك جيداً ، وكلنا نعرفك . .
قلت : ومن
أنتم إذن ؟
قالت : نحن
معشر النساء . . قرأنا كلماتك كثيراً وكثيراً . . وأذابتنا حروفك من فرط روعتها .
قلت : ومن
أخبركِ عنى . . يا سيدتى ؟
قالت :
أخبرنى عنك كل النساء ، اللاتى فضحت مشاعرهن كلماتك ، وأخرجت للعلن مكنونات صدورهن
. . نحن النساء فى مجالسنا لا تجمعنا سوى كلماتك ، ألهيتنا عن كل شئ فى الحياة ،
حتى أنفسنا ألهيتنا عنها ، إلا عن حروفك وكلماتك . .
قلت
(مندهشاً ) : أإلى هذا الحد . . تشغل بالكن كلماتى ؟
قالت : بل
أكثر . . وأكثر . . وأكثر ! !
قلت : إذن
. . ماذاتريدين منى يا سيدتى ؟
قالت :
أريدك أن تحدثنى . . إلق إلىّ وحدى بكلماتك .
قلت : وعما
تريديننى أن أحدثك ؟
قالت :
حدثنى عن معشوقتك . . أريد أن أفضح مشاعرك . . مثلما تفضح مشاعرنا .
قلت : وعن
أى معشوقاتى تريدين الحديث ؟
قالت : وهل
لك أكثر من معشوقة ؟
قلت :
ياااااه . . إنهن كثيرا ت ، بعدد سنوات عمرى !
قالت : إذن
. . حدثنى عن إحداهن .
قلت : لا .
. سوف أحدثكِ عن أكثرهن حباً وعِشقاً وجمالاً وبهاءً .
قالت (
بلهفة ) : إذن . . حدثنى عنها . . هيا حدثنى .
قلت :
عرفتها . . فى منتصف عمرى ، كنت أبحث عنها كثيراً ، وكنت أدعو الله أن أقابلها ،
وقد قابلتها ذات مساء ، فى إحدى ليالى الصيف بعد منتصف الثمانينات . .
قالت :
يااااه . . بعد منتصف الثمانينات ! ! إنها سنوات وسنوات يا صاحب الكلمات !
قلت : نعم
. . منذ سنوات وسنوات ، إستجاب الله لدعائى ، وقد دعوته كثيراً أن ألقاها ،
ولقيتها ، فكانت هى أكبر عشقى ، وهى حبى ، وكل غرامى وهيامى . . عرفتها فى إحدى ليالى
الصيف ، وقت أن إشتد الحر ، فكانت لى مثل كوب ماء بارد فى لحظات ظمأ شديد ! !
قالت : صِفها
لى . . حدثنى عن تلك التى مَنّيت نفسك بها ، حتى جمعكما الله .
قلت :
عندما أبصرت عيناى وجهها الجميل الخمرى المستدير . . وسمعت أذناى صوتها الهادئ
الرقيق . . وقع فى حبها قلبى ، سلبت منى عقلى ، وإخترقت فؤادى . . سكنت فى صدرى ،
جاورت أنفاسى . . أحاطت بقلبى ، وملكت كل كيانى ! !
قالت :
ألهذا الحد عشقتها يا صاحب الكلمات ؟
قلت : بل
وأكثر . . مرت الأيام والليالى ، إزداد حبى لها ، وتعلقى بها ، صارت عندى هى الماء
والهواء ، والروعة والجمال ، والبساتين والجنان . . صارت عندى أحلى الأشياء وكل
الأشياء !
قالت :
حدثنى عن عيناها . . أعرف أن الرجال يعشقن عيون النساء .
قلت :
عيناها عسليتان ، أنظر فيهما ، تأخذانى
إلى عالم فسيح جميل ، من البراءة والنقاء والصفاء . . أجزم لكِ بأن عيناها
هى أحلى من عيون كل النساء ، كلمتنى عيناها أكثر مما كلمتنى شفتاها ، عيناها
قتلتنى حباً فيها ، حتى صرت بها هيماناً ! !
قالت :
حدثنى عن هدوئها . . ألم تقل لى أنها هادئة ؟
قلت : بلى
. . هدوؤها عندى أشبه بهدوء جريان الماء على صفحة النهر . . إنها ظلت كالنسمة فى
حياتى ، لسنوات وسنوات . . لم تغضبنى قط ، ولم تعاندنى قط ، ولم تشاكسنى قط . .
أنظر إلى عينيها ، تعى سريعاً ما أريد . . إختصرت معها الكلمات ، فما بيننا لا
تعوزه الكلمات . . إنها حبيبتى ، أسكن قلبها ، وتسكن روحى وفؤادى .
قالت :
أراك أحببتها كثيراً ، وأغرمت بها طويلاً ، وهِمت فى هواها سنيناً .
قلت : لم
أكن أملك إلا أن أحبها . . وأن أغرم بها ، وأن أهيم فيها . . فما كان فيها وبها
ومعها ، لا يملك مثلى إلا أن يفتتن بها . .
قالت سائلة
: وهل حد ثت أحداً عنها من قبل ؟
قلت : لا .
. . لم أحد ث عنها أحداً ! !
قالت : ولم
؟ ؟ وأنت صاحب الكلمات ، وتفضح مشاعرالنساء ،ألا تفضح مشاعر الرجال أيضاً ؟
قلت : ولم
لا ؟ ؟ كلماتى كلها عن الحب والغرام والهيام . . والرجال تعشق تماماً كما النساء .
.
قالت : إذن
. . لماذا لم تكتب عنها حتى الآن ؟ ؟
قلت : أخشى
أن أكتب عنها . . فتحسدنى كل النساء على حبها . . النساء يغرن كثيراً يا عزيزتى ،
ولغيرتهن فعل الشيطان ، وسحر السحرة والجان ، وحسدهن لا ينجو منه إلا من رحم
الرحمن . . أمع كل هذا تريديننى أن أكتب عنها وعن حبى لها ؟ ؟ ويقرأه كل النساء .
. تباً لك من إمرأة ! !
قالت ( وهى
تضحك ) : معك كل الحق . . نحن النساء لا نطقن أبداً أن يُعشَق سوانا ، ولا أن
يُمتدح فى الجمال غيرنا ، لا سيما بكلماتك البارعة الرائعة الساحرة يا صاحب الكلمات
! !
قلت : إذن
. . كنت أنا حلى حق ، حين إحتفظت بحبى لها فى أعماقى . . فليس كل ما يعرفه المرء
ينطق به لسانه . . هكذا نصحتنى أمى رحمها الله ، وعلمتنى الأيام ، وتجارب الحياة .
قالت ( وهى
تستدرجنى ) : أراك حدثتنى عنها كثيراً . . وأفضت فى وصف حبك لها كثيراً . . أبعد
كل هذه السنوات ما زلت تحبها ؟ ؟
قلت : سوف
أحبها أكثر وأكثر ، وأتمنى قربها أكثر وأكثر . . وكلما مرت السنون أحببتها أكثر.
قالت : حتى
بعد فراقكما ؟
قلت (
حانقاً ) : ومن قال لكِ أنى فارقتها ، أو هى فارقتنى ؟ مثلها لا يفارق مثلى أبداً
. . ألم أقل لكِ أنها حبى وعشقى وغرامى وهيامى ؟ إنها جزء منى وأنا جزء منها . .
فكيف لى أن أفارقها أو تفارقنى ؟ إنها بالنسبة لى كل شئ فى الحياة . . بل إنها كل
الحياة ! !
قالت ( وهى
تسترضينى ) : لا تغضب . . خانتنى الكلمات ، وأنا لست مثلك صاحبة الكلمات .
قلت : لا
بأس . . لا بأس . .
قالت ( وهى
شغوفة ) : أما زلت تعرفها كل هذه السنوات . . إنك الآن جاوزت الخمسين بقليل ؟
قلت : نعم
. . إنى أعرفها منذ ست وعشرون عاماً . . إنها نصف عمرى تماماً .
قالت : وكل
هذه السنوات ، ما نالت من حبكما شيئاً ؟ ما أصابكما الملل ولا السأم ؟
قلت : وكيف
تنال السنوات منى ومنها ، وهى منى وأنا منها ! !
قالت (
والفضول يكاد يقتلها ) : حدثتنى وحدثتنى وحدثتنى . . وحتى الآن لم تخبرنى من تكون
حبيبتك ، ومعشوقتك ، وكل غرامك وهيامك ؟ ؟ إخبرنى هيا . . ياليتنى كنت هى ! !
قلت (
ممانعاً ) : لن أخبرك أبداً . . إنكن النساء لا أمان لكن أبداً . . أرى الفضول فى
عينيك يكاد يقتلك ، ولن أنقذك من هذا القتل !
قالت ( وهى
تلح ) : أخبرنى . . وأعدك ألا أخبر أحداً بما أخبرتنى . . قل لى من تكون حبيبتك ؟
معشوقتك ؟
بل أكثرهن جمالاً وبهاءً كما أخبرتنى ؟
قلت :
أقسمى لى أولاً ألا تخبرى أحداً عنها ! !
قالت ( وهى
تؤكد ) : أقسم لك . . ألا أخبر أحداً عنها أبداً . . أبداً ! !
قلت ( وأنا
متردد ) : إنها . . . . إنها . . . . ميادة . . إبنتى الوحيدة . . ذات الست
والعشرين ربيعاً ، قرة عينى وكل حياتى ، أجمل من رأت عيناى ، حبيبتى ومعشوقتى ، أكثرهن
جمالاً و بهاءً.
قالت ( وهى
تتمزق من الغيظ ) : يالك من مُخادع ومراوغ . . أسألك عن معشوقتك ، فتحدثنى عن
إبنتك ؟ ماذا أقول لك الآن ؟ لقد أغرت صدرى عليها ، حين حدثتنى عن حبك لها وعشقك ،
جعلتنى أتمنى زوالها من العالم كله . .
قلت : ومن
أجل ذلك ما أردت أن أخبرك ، لولا أنك أقسمتِ لى .
قالت : وهل
للنساء قسم ، يا صاحب الكلمات ؟ أما علمتك الحياة ، ألا تأمن مَكر النساء ؟
قلت :
علمتنى الحياة أشياءً كثيرة وكثيرة ، ومن كثرة ما علمتنى صرت أغفل عن بعضها ! !
قالت : ولكن . . كل النساء على حق ، عندما قلن عنك ما قلن ، وتحد ثن بما تحدثن ،
وأخبرن بما أخبرن ، وحذرن مما حذرن . . ورغم ذلك تمنين أن يجلسن معك ويتحدثن إليك
، مثلما فعلت.
قلت :
وماذا قال عنى النساء ؟ وبم تحدثن ؟ وعما أخبرن ؟ ومما حذرن ؟ ولماذا تمنين ؟
قالت ( وهى
تضحك ) : لن أخبرك أبداً ، وسوف أقتلك فضولاً ، كما قتلتنى حَسداً وغيرة ، أيها
المُخادع المُراوغ الماكر اللئيم . . مُت بفضولك حتى تُقلع عن كلماتك فى مشاعر
النساء ! !
قلت :
أعدكِ أبداً . . ألا أقلع ، حتى أموت ! ! !
قالت ( وهى
تنهض واقفة ) : أما أنا . . فأعدك ألا أخبر أحداً بما حدثتنى به ، وما فعلت معى ،
لا من أجلك أنت وإبنتك . . ولكن من أجل ألاتحسدنى النساء ، على أننى قد جلست معك ،
وتحدثت إليك ، وهن يتمنين ذلك مثلما تمنيت ، ولا أريد لإحداهن أن تنال منك ما نلت
أنا . . إنهن يطاردن كلماتك فى كل الصفحات ، فكيف بهن إن قابلنك مثلى ؟ ؟ لن
أعطيهن هذه الفرصة أبداً . . أبداً .
وَدعَتنى .
. وإستدارت . . وذهبت إلى حيث تمضى . . بعد أن حدثتها حديثاً ، لم أحدث به سوى نفسى
. . وبعدها عاد إلىّ رشدى ، وقلت لنفسى : ماذا دهاك أيها الأبله السفيه ؟ أتخبر
إمرأة عن حب عمرك ؟ وهل تؤتمن النساء على أسرار الحب والغرام ؟ ؟ ألم يعلمك الزمان
ولا تجارب الحياة ، ألا تستودع سرك أحداً ؟ فما بالك لو كان هذا الأحد هو إمرأة ،
والسر هو حب عمرك ؟ . . . نهضت واقفاً لأعود إلى بيتى ، وأنا أردد فى نفسى : بسم
الله الرحمن الرحيم " قل أعوذ برب الفلق ، من شر ماخلق ، ومن شرالنفاثات فى
العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد " صدق الله العظيم.
وإلى مقال آخر إن شاء الله
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق