الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

الإفراج عن مبارك . . بين القانون والسياسة والإنسانية ! !


الإفراج عن مبارك . . . بين القانون والسياسة والإنسانية ! !
--------------------------------------------------------

مما لا شك فيه . . أن الحديث فى السياسة هو حديث مصالح وتوازنات فى المقام الأول ، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى الدول ، ومن يُنكر تلك الحقيقة الجامدة ، فإن الأولى به أن يرفع قلمه أو يكف لسانه عن الحد يث فى السياسة . . إن السياسة هى لعبة المصالح ، ولعبة التوازنات ، وهى فن الممكن من أجل الوصول إلى أفضل النتائج ، التى تحقق أعلى المصالح ، أما عن المشاعر والعواطف والرومانسيات ، فلا مجال لها فى عالم السياسة ، ولكن مكانها الأنسب والأصلح ، فى عالم الأد بيات والقصص والشعر ، ومن أراد أن يتحدث فى شأن سياسى بوازع من قلبه ، فليدرك تماماً أن لا أحد سوف يُصغى إليه ، فى السياسة قاعدة مفادها " حدثنى عن مصالحى ، ولا تحدثنى عن عواطفى " . . وأنا حريص كل الحرص ، على أن أضع تلك القاعدة الذهبية ، نُصب عيني وأنا أكتب أو أتحدث فى أى شأن سياسى .

وفى مصر . . هناك ثوابت وحقائق ، لا يختلف عليها المصريون ، مهما إختلفت إنتماءاتهم أو رؤاهم أو توجهاتهم ، راسخة فى أعماق الشعب المصرى ، ولا يُنكرها الشارع السياسى المصرى . . من تلك الثوابت والحقائق ، أن حسنى مبارك هو إبن من أبناء مصر ، نشأ وترعرع فى إحدى قراها ، وشب على أرضها وتحت سمائها ، وبدأ حياته ضابطاً صغيراً بالجيش المصرى ، قضى ما يزيد على ربع قرن ، هى أحلى سنوات شبابه ، بسلاح الطيران المصرى ، يدافع عن أرض مصر وسمائها ، أعطى مصر الكثير والكثير ، خلال تلك الفترة ، التى تُوجت بنصر أكتوبر المجيد 1973 ، والتى شارك فيها حسنى مبارك بدور رئيسى وفعال ، وكان بلا جدال هو أحد أبطال ذلك النصر . . وسوف يسجل التاريخ العسكرى – وقد سجل بالفعل – لحسنى مبارك ، كل مواقفة الشجاعة من أجل مصر ، وهو مرتدياً الزى العسكرى . . ومن يُنكر ذلك أو يراوغ فيه ، فإنه يُعد مُنكراً لحقيقة ثابتة لا تتزعزع أبداً ، وأطالبه بأن يعيد ترتيب أوراقه وحساباته ، كى يُعطى الرجل كامل حقه غير منقوص مثقال ذرة . 

ثم شاءت إرادة الله ، أن يخلع حسنى مبارك زيه العسكرى ، مُنهياً فترة خدمته فى جيش مصر العظيم ، ومُتقلداً منصباً آخر بين صفوف أبناء شعب مصر العظيم ، عندما إختاره الزعيم الرحل / أنور السادات ، نائباً لرئيس الجمهورية ، فى منتصف سبعينات القرن الماضى ، ولم يكن الرجل ذو البصيرة النافذة ، والرؤية المستقبلية الشاملة ، ليُقرر إختيار مبارك لهذا المنصب من فراغ ، فلا شك أنه قد رأى فيه من الصفات والخصال والقدرات ، ما يؤهله لأن يخلفه فى حكم مصر . . قضى حسنى مبارك أكثر من خمس سنوات ، نائباً لرئيس الجمهورية ، حتى كان حادث المنصة الأليم ، الذى راح ضحيته الزعيم / أنور السادات ، على يد حفنة من الأشرار الضالين ، ممن ينتموا إلى أبناء هذا الوطن .

وتسلم حسنى مبارك الراية ، فى 14 أكتوبر 1981 ، فى فترة عصيبة من تاريخ مصر الحديث ، فترة أطل فيها الإرهاب والتطرف الدينى ، بوجههه القبيح على مصر وشعبها ، فترة فقدت فيها مصر أمنها وسلامها الإجتماعى الداخلى ، عقب قرارات سبتمبر 1981 ، وإهتزت علاقاتها الخارجية بشقيقاتها من الدول العربية ، التى عارضت السادات – رحمه الله – فى مشوار السلام ، من أجل إسترداد ، سيناء وبقية الأرض المحتلة ، ولم يُدرك حكام العرب آنذاك ، نظرة السادات إلى التغيرات التى سوف تطرأ على المنطقة العربية فى العقود المقبلة ، وعجزت عقولهم ، عن إستيعاب رؤية الرجل المستقبلية ، وبُعد نظرته السياسية ، وكان ما كان من شق الصف العربى . . ولكن مبارك بعقله وحكته وهدوئه ورزانته ، إستطاع أن يُعيد إلى مصر أمنها وسلامها الإجتماعى ، وأن يستر لمصر علاقاتها بأشقائها العرب فى وقت قصير ، وعُبر بسفينة مصر ، إلى بر الأمان ، لتبدأ مصر عهداً جديداً من الإستقرار ، على المستويين الداخلى والخارجى .
يقيناً . . كانت لمبارك قدراته وإمكاناته ، التى إختلفت كثيراً عن سابقيه ( عبد الناصر والسادات ) ، فى مهارة العمل السياسى ، وسرعة مسايرة الأحداث ، وجهوزية القرارات السياسية ، فقد كان الرجل عسكرياً فى المقام الأول ، ولم يكن له دراية بالسياسة ولا فنونها ، بل مارسها على كِبر ، كما أقر هو بذلك . . ولكنه إجتهد قدر إستطاعته ، ولم يبخل بأى نوع من العطاء ، من أجل مصر وشعبها ، طوال سنوات حكمه التى قاربت الثلاثين . . ويقيناً أنه كان يتعين عليه فى السنوات الأخيرة من حكمه ، ألا يَدع زمام الأمور يفلت من بين يديه ، وألا يترك حكم البلاد لولده الأصغر الذى لا خبرة لديه ( وهنا أشير إلى شهادات بعض ممن عملوا بجوار مبارك لسنوات وسنوات ) ، ويقيناً أنه كان يتعين عليه ، عندما نال منه تقدم العمر والمرض ، وإستشعر ثقل المسئولية وجسامتها ، ألا يتحدى الزمن ، وأن يعيد ترتيب أوراق مصر ، ويضع أقدام المصريين على بداية الطريق الصحيح للديمقراطية الحقة ، وتداول السلطة بشكل مؤسسى ( كما شهدنا فجر اليوم سير الإنتخابات الرئاسية الأمريكية ، وكأنها تنافس شريف ونظيف بين أوباما ورومنى ، فى مباراة رياضية ، التحدى فيها والفوز لمصلحة أمريكا وحدها ، والشعب الأمريكى وحده ) . . ولكن خابت حسابات الرجل ، وأخطأ التقدير ـ وضلله معاونوه لمصالحهم ومطامعهم الخاصة ، وتلاعب به ولده الأصغر ، وكلنا آباء ونعلم كم نكون ضعفاء أمام أبنائنا ، ولكنها كانت مصر يا مبارك ، ولم تكن شأناً خاصاً بك وبولدك وبإمرأتك ، لقد أخطأ الرجل - عن غير قصد – فى بعض الأمور الهامة ، وكان ما كان ، فى 25 يناير 2011 م . .

ولكن . . هل ما حدث فى 25 يناير ، يجب أن يُمحى تاريخ الرجل ؟ أو يجعل المصريين يُنكرون عليه كل عطاءاته وبطولاته وإنجازاته . . إن التاريخ ومن قبله المصريين - رغم كل ما حدث – يذكرون لحسنى مبارك ، أنه ما تَعمَد قط أن يُفرط فى أمن وسيادة وإستقرار هذا الوطن ، وما تعمد قط أن يُسئ إلى تارخ هذا الشعب المصرى العريق وحضارته ، وما تعمد قط أن يؤذى أى من المصريين فى نفسه أو ماله أو عرضه . . ولكنها كَبوة الفارس ، الذى كان لابد وأن يسقط من على ظهرجواده ، لكى تنفذ إرادة الله ومشيئته فى التغيير والتطوير ، وتلك سنة الحياة التى فرضها الله على عباده ، من البشر ، فما دامت الدنيا لأحد قط ، وما كانت ستدوم لمبارك أو غير مبارك ، ولو كان لها أن تدوم ، لدامت للمعصوم محمد صلى الله عليه وسلم . . كان على مبارك
 أن يُسلم راية مصر ، لمن بعده من الأصلحين ، كما فعل السادات – رحمه الله – وألا يحتكرها لنفسه أو لولده ، كل هذه السنوات الطوال ، يُجرى تعديلات دستورية وهمية ، تفتح الباب لولده وحده لينفذ عبره إلى حكم مصر ، ثم يُجرى إنتخابات برلمانية شهد عليها الجميع بالتزوير، وكانت القشة التى قصمت ظهر البعير  ، كى يضمن الولاء لولده ، ونسى حسنى مبارك أو تناسى ، أنه لا يحكم أحد فى مُلك الله إلا بمُراد الله ، وإلا كيف نفسر قول الله تعالى فى كتابه العزيز " قل اللهم مالك المُلك ، تؤتى المُلك من تشاء ، وتنزع المُلك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شئ قدير " صدق الله العظيم . . وقد نفذت إرادة الله ، وتخلى حسنى مبارك عن حكم مصر فى 11 فبراير 2011م ، لتدخل مصر مرحلة جديدة من مراحل تاريخها الحديث .

والآن . . حسنى مبارك ، بكل تاريخه اللامع ، وماضيه المشرف ، يرقد على سريره بمستشفى سجن طرة ، تنفيذاً لحكم قضائى – هو حتى الآن عنوان الحقيقة – ولا حقيقة سواه فى الوقت الراهن ، هكذا علمنا أساتذتنا فى القانون والقضاء . . صحيح أن مبارك أخطأ بعض الأخطاء ، شأنه شأن كل البشر ، وصحيح أنه أحاط نفسه بحاشية فاسدة وضالة ، أساءت إليه كثيراً ، ونالت من تاريخه ، ومن نظرة المصريين إليه كثيراً ، وصحيح أن ولده الأصغر كان نقطة ضعف لديه ، وصحيح أن الرجل لم يُحسن التصرف ، فى الأيام الأولى للثورة ، وكان يُمكنه فعل الكثير . .
ولكن . . صحيح أيضاً ، أن الرجل له تاريخ طويل ، وعطاء غزير ، خلال عمره الطويل ، فى خدمة مصر وشعبها ، وأن الرجل كان مثالاً للمصرية الوطنية الحقة ، ولا يستطيع أحد مهما كان أن يُزايد على وطنيته ومصريته ، وصحيح أيضاً أنه يجب علينا مراعاة كل هذه الأمور ، ونحن نتعامل مع هذا الرجل تحديداً .

نحن المصريون . . ندرك تماماً ، أن السياسة لعبة قذرة ، لا مبادئ فيها ولا أخلاق ، وندرك أيضاً أن المؤسسة الأمنية البوليسية ، فى عهد مبارك ، قد أساءت كثيراً وكثيراً لأعضاء جماعة الأخوان المسلمين ، وأنا بصفتى من رجال القانون شاهد على ذلك ، تعاملت معهم على أنهم غير مصريين ، سلبت أموالهم ، وهتكت أعراضهم ، وروعت أسرهم وأبناءهم ، ثم ألقت بهم فى غياهب السجون ، لسنوات وسنوات ، حتى عندما كان القضاء يُفرج عنهم ، يُعاد إعتقالهم مرة أخرى ، بمجرد إخلاء سبيلهم ، وقد تضرر القضاة أنفسهم من ذلك ، حرصاً على هيبة أحكامهم، ولكن دون جدوى . . نحن ندرك أن بينهم وبين مبارك حسابات وحسابات ، وهناك ثأر قديم عمره ثلاثون عاماً ، ثأر أسود شديد السواد ، وندرك كذلك أن مبارك كان يعتقد – من وجهة نظره – أنه بذلك إنما يحفظ مصلحة مصر ، لأنه كان يعتبر الإخوان المسلمين خطراً على مصر وشعبها.

ولكننى . . أقول لهم – جماعة الإخوان المسلمين – إن الرجل الآن طريح الفراش ، مريض ونالت منه الشيخوخة ، ولا حول له ولا قوة ، راح عنه جاهه وسلطانه ، وذهبت عنه صحته ، وغادرته قوته ، وإستحال إلى رجل عجوز عليل سجين ، ولا طائل من وراء التنكيل به أو النيل منه ، أعلم أن لكم فى رقبته حقوق كثيرة ، سوف يُسأل عنها جميعها أمام الله ، يوم لا سلطان إلا لله ، ولا مًلك إلا للواحد القهار ، وأعلم أن قرار الإفراج عن مبارك ليس قراراً قضائياً – على الأقل فى مصر -  التى أطاح فيها الجهاز الأمنى لمبارك بكل أحكام القضاء ، ووقع على أرضها سحل القضاة ، وضربهم بالأحذية فى وضح النهار ، كما أعلم علم اليقين ، أن قرار الإفراج عن مبارك ، هو قرار شعبى وسياسى بالدرجة الأولى ، وليس قراراً قضائياً بالمرة ، حتى ولو أنكر المُنكرون ، ممن لا يفهمون طبيعة مصر ، وطبيعة شعبها ، وأعلم أخيراً أنكم الآن تملكون زمام السياسة فى مصر  ، فرفقاً بالرجل وتاريخه ، ورفقاً بأنصاره ومؤيديه ، فهم مثلنا مصريون . .

أما عن المصريين . . فأعلم أن طبيعتهم وفطرتهم ، تأبى أن يُهان الرجل ، وهو فى أرذل عمره ، وأعلم أن طيبتهم هى دائماً الغالبة . . وأقول لهم : تنادوا بأعلى صوتكم من أجل أن يتم الإفراج -صحياً – عن مبارك ، أنتم تدركون جيداً تاريخه وعطاءه من أجل مصر ومن أجلكم ، غُلِبوا إنسانيتكم وطيبتكم وعطفكم ورحمتكم ، أنتم تعلمون أن قرار الإفراج عن مبارك هو قراركم وحدكم ، لن تعارضكم فيه سلطة ، مصر مصركم ، وشهداء مصر أبناؤكم ، وحسنى مبارك منكم ،إعملوا بوصية نبيكم وكونوا رحماء . . إطلقوا سراح الرجل ، إعفوا عنه ، ولن تكونوا نادمين !
                                                                       وإلى مقال آخر إن شاء الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق