الإفراج
عن مبارك . . . بين القانون والسياسة والإنسانية ! !
--------------------------------------------------------
مما لا شك
فيه . . أن الحديث فى السياسة هو حديث مصالح وتوازنات فى المقام الأول ، سواء على
مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى الدول ، ومن يُنكر تلك الحقيقة الجامدة ، فإن
الأولى به أن يرفع قلمه أو يكف لسانه عن الحد يث فى السياسة . . إن السياسة هى
لعبة المصالح ، ولعبة التوازنات ، وهى فن الممكن من أجل الوصول إلى أفضل النتائج ،
التى تحقق أعلى المصالح ، أما عن المشاعر والعواطف والرومانسيات ، فلا مجال لها فى
عالم السياسة ، ولكن مكانها الأنسب والأصلح ، فى عالم الأد بيات والقصص والشعر ،
ومن أراد أن يتحدث فى شأن سياسى بوازع من قلبه ، فليدرك تماماً أن لا أحد سوف
يُصغى إليه ، فى السياسة قاعدة مفادها " حدثنى عن مصالحى ، ولا تحدثنى عن
عواطفى " . . وأنا حريص كل الحرص ، على أن أضع تلك القاعدة الذهبية ، نُصب
عيني وأنا أكتب أو أتحدث فى أى شأن سياسى .
وفى مصر .
. هناك ثوابت وحقائق ، لا يختلف عليها المصريون ، مهما إختلفت إنتماءاتهم أو رؤاهم
أو توجهاتهم ، راسخة فى أعماق الشعب المصرى ، ولا يُنكرها الشارع السياسى المصرى .
. من تلك الثوابت والحقائق ، أن حسنى مبارك هو إبن من أبناء مصر ، نشأ وترعرع فى
إحدى قراها ، وشب على أرضها وتحت سمائها ، وبدأ حياته ضابطاً صغيراً بالجيش المصرى
، قضى ما يزيد على ربع قرن ، هى أحلى سنوات شبابه ، بسلاح الطيران المصرى ، يدافع
عن أرض مصر وسمائها ، أعطى مصر الكثير والكثير ، خلال تلك الفترة ، التى تُوجت
بنصر أكتوبر المجيد 1973 ، والتى شارك فيها حسنى مبارك بدور رئيسى وفعال ، وكان
بلا جدال هو أحد أبطال ذلك النصر . . وسوف يسجل التاريخ العسكرى – وقد سجل بالفعل –
لحسنى مبارك ، كل مواقفة الشجاعة من أجل مصر ، وهو مرتدياً الزى العسكرى . . ومن
يُنكر ذلك أو يراوغ فيه ، فإنه يُعد مُنكراً لحقيقة ثابتة لا تتزعزع أبداً ، وأطالبه
بأن يعيد ترتيب أوراقه وحساباته ، كى يُعطى الرجل كامل حقه غير منقوص مثقال ذرة .
ثم شاءت
إرادة الله ، أن يخلع حسنى مبارك زيه العسكرى ، مُنهياً فترة خدمته فى جيش مصر
العظيم ، ومُتقلداً منصباً آخر بين صفوف أبناء شعب مصر العظيم ، عندما إختاره
الزعيم الرحل / أنور السادات ، نائباً لرئيس الجمهورية ، فى منتصف سبعينات القرن
الماضى ، ولم يكن الرجل ذو البصيرة النافذة ، والرؤية المستقبلية الشاملة ، ليُقرر
إختيار مبارك لهذا المنصب من فراغ ، فلا شك أنه قد رأى فيه من الصفات والخصال
والقدرات ، ما يؤهله لأن يخلفه فى حكم مصر . . قضى حسنى مبارك أكثر من خمس سنوات ،
نائباً لرئيس الجمهورية ، حتى كان حادث المنصة الأليم ، الذى راح ضحيته الزعيم /
أنور السادات ، على يد حفنة من الأشرار الضالين ، ممن ينتموا إلى أبناء هذا الوطن
.
وتسلم حسنى
مبارك الراية ، فى 14 أكتوبر 1981 ، فى فترة عصيبة من تاريخ مصر الحديث ، فترة أطل
فيها الإرهاب والتطرف الدينى ، بوجههه القبيح على مصر وشعبها ، فترة فقدت فيها مصر
أمنها وسلامها الإجتماعى الداخلى ، عقب قرارات سبتمبر 1981 ، وإهتزت علاقاتها
الخارجية بشقيقاتها من الدول العربية ، التى عارضت السادات – رحمه الله – فى مشوار
السلام ، من أجل إسترداد ، سيناء وبقية الأرض المحتلة ، ولم يُدرك حكام العرب
آنذاك ، نظرة السادات إلى التغيرات التى سوف تطرأ على المنطقة العربية فى العقود
المقبلة ، وعجزت عقولهم ، عن إستيعاب رؤية الرجل المستقبلية ، وبُعد نظرته
السياسية ، وكان ما كان من شق الصف العربى . . ولكن مبارك بعقله وحكته وهدوئه
ورزانته ، إستطاع أن يُعيد إلى مصر أمنها وسلامها الإجتماعى ، وأن يستر لمصر
علاقاتها بأشقائها العرب فى وقت قصير ، وعُبر بسفينة مصر ، إلى بر الأمان ، لتبدأ
مصر عهداً جديداً من الإستقرار ، على المستويين الداخلى والخارجى .
يقيناً . .
كانت لمبارك قدراته وإمكاناته ، التى إختلفت كثيراً عن سابقيه ( عبد الناصر
والسادات ) ، فى مهارة العمل السياسى ، وسرعة مسايرة الأحداث ، وجهوزية القرارات
السياسية ، فقد كان الرجل عسكرياً فى المقام الأول ، ولم يكن له دراية بالسياسة
ولا فنونها ، بل مارسها على كِبر ، كما أقر هو بذلك . . ولكنه إجتهد قدر إستطاعته
، ولم يبخل بأى نوع من العطاء ، من أجل مصر وشعبها ، طوال سنوات حكمه التى قاربت
الثلاثين . . ويقيناً أنه كان يتعين عليه فى السنوات الأخيرة من حكمه ، ألا يَدع
زمام الأمور يفلت من بين يديه ، وألا يترك حكم البلاد لولده الأصغر الذى لا خبرة
لديه ( وهنا أشير إلى شهادات بعض ممن عملوا بجوار مبارك لسنوات وسنوات ) ، ويقيناً
أنه كان يتعين عليه ، عندما نال منه تقدم العمر والمرض ، وإستشعر ثقل المسئولية
وجسامتها ، ألا يتحدى الزمن ، وأن يعيد ترتيب أوراق مصر ، ويضع أقدام المصريين على
بداية الطريق الصحيح للديمقراطية الحقة ، وتداول السلطة بشكل مؤسسى ( كما شهدنا
فجر اليوم سير الإنتخابات الرئاسية الأمريكية ، وكأنها تنافس شريف ونظيف بين
أوباما ورومنى ، فى مباراة رياضية ، التحدى فيها والفوز لمصلحة أمريكا وحدها ،
والشعب الأمريكى وحده ) . . ولكن خابت حسابات الرجل ، وأخطأ التقدير ـ وضلله معاونوه
لمصالحهم ومطامعهم الخاصة ، وتلاعب به ولده الأصغر ، وكلنا آباء ونعلم كم نكون
ضعفاء أمام أبنائنا ، ولكنها كانت مصر يا مبارك ، ولم تكن شأناً
خاصاً بك وبولدك وبإمرأتك ، لقد أخطأ الرجل - عن غير قصد – فى بعض الأمور الهامة ،
وكان ما كان ، فى 25 يناير 2011 م . .
ولكن . .
هل ما حدث فى 25 يناير ، يجب أن يُمحى تاريخ الرجل ؟ أو يجعل المصريين يُنكرون
عليه كل عطاءاته وبطولاته وإنجازاته . . إن التاريخ ومن قبله المصريين - رغم كل ما
حدث – يذكرون لحسنى مبارك ، أنه ما تَعمَد قط أن يُفرط فى أمن وسيادة وإستقرار هذا
الوطن ، وما تعمد قط أن يُسئ إلى تارخ هذا الشعب المصرى العريق وحضارته ، وما تعمد
قط أن يؤذى أى من المصريين فى نفسه أو ماله أو عرضه . . ولكنها كَبوة الفارس ،
الذى كان لابد وأن يسقط من على ظهرجواده ، لكى تنفذ إرادة الله ومشيئته فى التغيير
والتطوير ، وتلك سنة الحياة التى فرضها الله على عباده ، من البشر ، فما دامت
الدنيا لأحد قط ، وما كانت ستدوم لمبارك أو غير مبارك ، ولو كان لها أن تدوم ،
لدامت للمعصوم محمد صلى الله عليه وسلم . . كان على مبارك
أن يُسلم راية مصر ، لمن بعده من الأصلحين
، كما فعل السادات – رحمه الله – وألا يحتكرها لنفسه أو لولده ، كل هذه السنوات
الطوال ، يُجرى تعديلات دستورية وهمية ، تفتح الباب لولده وحده لينفذ عبره إلى حكم
مصر ، ثم يُجرى إنتخابات برلمانية شهد عليها الجميع بالتزوير، وكانت القشة التى
قصمت ظهر البعير ، كى يضمن الولاء لولده ،
ونسى حسنى مبارك أو تناسى ، أنه لا يحكم أحد فى مُلك الله إلا بمُراد الله
، وإلا كيف نفسر قول الله تعالى فى كتابه العزيز " قل اللهم مالك المُلك ،
تؤتى المُلك من تشاء ، وتنزع المُلك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ،
بيدك الخير ، إنك على كل شئ قدير " صدق الله العظيم . . وقد نفذت إرادة الله
، وتخلى حسنى مبارك عن حكم مصر فى 11 فبراير 2011م ، لتدخل مصر مرحلة جديدة من
مراحل تاريخها الحديث .
والآن . .
حسنى مبارك ، بكل تاريخه اللامع ، وماضيه المشرف ، يرقد على سريره بمستشفى سجن طرة
، تنفيذاً لحكم قضائى – هو حتى الآن عنوان الحقيقة – ولا حقيقة سواه فى الوقت الراهن
، هكذا علمنا أساتذتنا فى القانون والقضاء . . صحيح أن مبارك أخطأ بعض الأخطاء ،
شأنه شأن كل البشر ، وصحيح أنه أحاط نفسه بحاشية فاسدة وضالة ، أساءت إليه كثيراً
، ونالت من تاريخه ، ومن نظرة المصريين إليه كثيراً ، وصحيح أن ولده الأصغر كان
نقطة ضعف لديه ، وصحيح أن الرجل لم يُحسن التصرف ، فى الأيام الأولى للثورة ، وكان
يُمكنه فعل الكثير . .
ولكن . .
صحيح أيضاً ، أن الرجل له تاريخ طويل ، وعطاء غزير ، خلال عمره الطويل ، فى خدمة
مصر وشعبها ، وأن الرجل كان مثالاً للمصرية الوطنية الحقة ، ولا يستطيع أحد مهما
كان أن يُزايد على وطنيته ومصريته ، وصحيح أيضاً أنه يجب علينا مراعاة كل هذه
الأمور ، ونحن نتعامل مع هذا الرجل تحديداً .
نحن
المصريون . . ندرك تماماً ، أن السياسة لعبة قذرة ، لا مبادئ فيها ولا أخلاق ،
وندرك أيضاً أن المؤسسة الأمنية البوليسية ، فى عهد مبارك ، قد أساءت كثيراً
وكثيراً لأعضاء جماعة الأخوان المسلمين ، وأنا بصفتى من رجال القانون شاهد على ذلك
، تعاملت معهم على أنهم غير مصريين ، سلبت أموالهم ، وهتكت أعراضهم ، وروعت أسرهم
وأبناءهم ، ثم ألقت بهم فى غياهب السجون ، لسنوات وسنوات ، حتى عندما كان القضاء
يُفرج عنهم ، يُعاد إعتقالهم مرة أخرى ، بمجرد إخلاء سبيلهم ، وقد تضرر القضاة
أنفسهم من ذلك ، حرصاً على هيبة أحكامهم، ولكن دون جدوى . . نحن ندرك أن بينهم
وبين مبارك حسابات وحسابات ، وهناك ثأر قديم عمره ثلاثون عاماً ، ثأر أسود شديد
السواد ، وندرك كذلك أن مبارك كان يعتقد – من وجهة نظره – أنه بذلك إنما يحفظ
مصلحة مصر ، لأنه كان يعتبر الإخوان المسلمين خطراً على مصر وشعبها.
ولكننى . .
أقول لهم – جماعة الإخوان المسلمين – إن الرجل الآن طريح الفراش ، مريض ونالت منه
الشيخوخة ، ولا حول له ولا قوة ، راح عنه جاهه وسلطانه ، وذهبت عنه صحته ، وغادرته
قوته ، وإستحال إلى رجل عجوز عليل سجين ، ولا طائل من وراء التنكيل به أو النيل
منه ، أعلم أن لكم فى رقبته حقوق كثيرة ، سوف يُسأل عنها جميعها أمام الله ، يوم
لا سلطان إلا لله ، ولا مًلك إلا للواحد القهار ، وأعلم أن قرار الإفراج عن مبارك
ليس قراراً قضائياً – على الأقل فى مصر - التى أطاح فيها الجهاز الأمنى لمبارك بكل أحكام
القضاء ، ووقع على أرضها سحل القضاة ، وضربهم بالأحذية فى وضح النهار ، كما أعلم
علم اليقين ، أن قرار الإفراج عن مبارك ، هو قرار شعبى وسياسى بالدرجة الأولى ،
وليس قراراً قضائياً بالمرة ، حتى ولو أنكر المُنكرون ، ممن لا يفهمون
طبيعة مصر ، وطبيعة شعبها ، وأعلم أخيراً أنكم الآن تملكون زمام
السياسة فى مصر ، فرفقاً بالرجل وتاريخه ،
ورفقاً بأنصاره ومؤيديه ، فهم مثلنا مصريون . .
أما عن
المصريين . . فأعلم أن طبيعتهم وفطرتهم ، تأبى أن يُهان الرجل ، وهو فى أرذل عمره
، وأعلم أن طيبتهم هى دائماً الغالبة . . وأقول لهم : تنادوا بأعلى صوتكم من أجل
أن يتم الإفراج -صحياً – عن مبارك ، أنتم تدركون جيداً تاريخه وعطاءه من أجل مصر
ومن أجلكم ، غُلِبوا إنسانيتكم وطيبتكم وعطفكم ورحمتكم ، أنتم تعلمون أن قرار
الإفراج عن مبارك هو قراركم وحدكم ، لن تعارضكم فيه سلطة ، مصر مصركم ، وشهداء مصر
أبناؤكم ، وحسنى مبارك منكم ،إعملوا بوصية نبيكم وكونوا رحماء . . إطلقوا سراح
الرجل ، إعفوا عنه ، ولن تكونوا نادمين !
وإلى مقال آخر إن شاء
الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق