عودى
إلى أحضان قلبى . . . وأسكنى روحى وفؤادى ! !
-----------------------------------------------------
كانت عذاب
فتاة فلسطينية تبلغ من العمر الخامسة والعشرين ربيعاً ، وُلدت فى نابلس تحت
الإحتلال الصهيونى لفلسطين ، نشأ ت فى أسرة متوسطة الحال ، مكونة من أب وأم وثلاث
شقيقات ، وكانت هى أكبر أخواتها عمراً ، إستطاع والدها أن يكمل معها مشوار تعليمها
إلى آخره ، حصلت عذاب على بكالوريوس فى شعبة المحاسبة ، من كلية التجارة جامعة
نابلس ، وها هى الآن تعمل بأحد مكاتب المحاسبة والضرائب بمدينة نابلس . .
كانت عذاب
من ذلك النوع من الفتيات ، اللاتى تتصفن بالرقة والعذوبة ، والأحاسيس المرهفة ،
والمشاعر الحالمة ، وكانت تسيطر عليها دائماً الميول الرومانسية ، كانت عطوفة
وحنونة جداً ، كم أبكتها تلك المواقف اليومية العديدة ، التى يتعرض لها أبناء
وبنات ، وأطفال وشيوخ ، ورجال ونساء شعبها الفلسطينى ، من تسلط وهيمنة وقهر
الإحتلال الصهيونى ، على كل مقدرات وطنها . . من ينظر إلى وجهها الطفولى البرئ ،
يرى خلف عينيها الجميلتين علامات الحزن والأسى والهم والألم ، وكل شئ فيها كان يَشى
بمكنونات صدرها ، الذى تملؤه مشاعر المعاناة والكبت وفقدان الحرية ، وضياع العزة
والكرامة . .لقد أحال الإحتلال الصهيونى الوطن الفلسطينى ، إلى سجن كبير بداخله
أصحاب الحق والأرض ، والمال والعرض ، تحيط به الأسوار العالية والأسلاك الشائكة ،
ونقاط التفتيش ، التى تحد من حرية وحركة أبناء الشعب الفلسطينى ، داخل شوارعهم
ومدنهم ، لقد كانت عذاب تجسد فى ملامحها وأقوالها وأفعالها مأساة ذلك الشعب
المقهور ، المغلوب على أمره دائماً .
وذات يوم
من الأيام ، ذهبت عذاب إلى الجامعة ، لإستخراج بعض أوراقها الجامعية ، لم تكن عذاب
قد ذهبت إلى الجامعة منذ تخرجها من حوالى ثلاث سنوات ، لقد أمضت فى هذه الجامعة
أربع سنوات من عمرها ، وسط زملاء وزميلات دراسة تجمعهم ظروف معيشية واحدة ،
ومعاناة يومية واحدة ، ووطن مُمزق واحد ، وقضية فلسطينية تائهة وضائعة واحدة ،
وإحتلال قمعى مجرم واحد . . كل ذلك كان بمثابة قواسم مشتركة بين كل الشباب
والفتيات فى فلسطين ، لم يعيشوا حياتهم فى الصِبا والشباب مثلما عاشها أقرانهم فى
كل البلدان العربية المجاورة ، كان لديهم دائماً الإحساس بأنهم الوحيدون المحرومون
من الحرية والسعادة والحياة الحرة الكريمة . .
دخلت عذاب
إلى مبنى كلية التجارة ، وتوجهت مباشرة إلى قسم شئون الخريجين ، تحد ثت إلى الموظف
المسئول ، وقدمت الطلبات لإستخراج الأوراق ، طلب الموظف منها الإنتظار ساعتين ، حتى
يحين موعد إستلام الأوراق . . فضلت عذاب ألا تذهب بعيداّ ، وجلست على أحد المقاعد
أمام مبنى الكلية ، تستظل بظل شجرة بجوار المقعد .
لحظات
قليلة . . وجاء شاب لم تكن تعرفه ، حَياها وجلس على المقعد المجاور لها ، بدا عليه
أنه فى الثلاثين من عمره تقريباً ، يحمل فى يده أوراقاً مبعثرة ، يحاول إعادة
ترتيبها ، أوراقه مبعثرة ، وملامح وجههه يعلوها التوتر والقلق ، وعيناه مرهقتان من
التعب ، ظل يبعثر فى أوراقه ثم يرتبها مرة ومرة ومرة ، كمن لا يدرى ماذا يريد ، أو
كمن يبحث عن شئ ضائع . . نظر إلى عذاب سائلاً : أريد إستخراج بعض الشهادات من شئون
الخريجين بالكلية ، ما هى الأوراق المطلوبة ؟ ؟
أخبرته بم فعلت ، فإنطلق مسرعاً إلى داخل المبنى ، غاب عشر دقائق ، ثم عاد
ليجلس مرة أخرى إلى جوارها ، وهو يردد : ساعتان ، ساعتان ، أنتظر ساعتان ؟ بدت
عليه علامات الحنق والضيق ، ولكن ما باليد حيلة ، لابد من الإنتظار . . إبتسمت
عذاب وطالبته بأن يهدأ ، فها هى أيضاً تنتظر مثله ، وبدأ الهدوء يجتاح كيان الشاب
الثائر الغاضب ، وبدأ الإثنان فى حوار بينهما ، لعل الوقت يمضى ، حّدثها الشاب عن
نفسه : أخبرها بأن إسمه ولاء ، وأنه متخرج من هذه الكلية منذ ثمانى سنوات ، وأنه
من نابلس ، ومنذ تخرجه وهو يبحث عن عمل ، حتى وجد أخيراً عملاً بإحدى شركات
المقاولات ، طلبت منه الشركة أوراقاً ، جاء لإستخراجها من الجامعة ، لإتمام
إجراءات إستلام الوظيفة . . أخبرته عذاب عن نفسها ، وتحدثا فى أمور كثيرة وعديدة ،
سَكن لها الشاب الثائر وهدأ ، وسَكنت له هى وإرتاحت ، شعرت به عذاب ، أنه مثال
للشاب الفلسطينى المكافح ، من أجل أن يجد له موضع قدم فى الحياة ، تحد ث كل منهما
عن ذكرياته فى الجامعة ، وكان طبيعياً أن يتحدثا عن المعاناة المشتركة بينهما ،
معاناة كل أبناء الشعب الفلسطينى . . أخذهما الحديث وإستعادة ذكريات الجامعة ، ولم
يدركا الوقت ، فجأة تنبها لأن الوقت قد مضى وأكثر ، توجها إلى حيث إستلما الأوراق
، وودع كلاهما الآخر مُتمنياً له التوفيق فى حياته .. مضى ولاء إلى حيث بيته ،
ومضت عذاب إلى حيث بيتها ، ولكنهما فى حقيقة الأمر لم يتفرقا ، لقد علق بكل
منهما شئ من الآخر ، ربط بينهما شئ لم يدركاه فى حينه .
مر يومان .
. ولم يفارق وجه عذاب مُخيلة ولاء ، أحس أنها الوحيدة منذ سنوات التى جعلته يهدأ
ويسكن ، كل شئ فى حياته ، يُزعجه ويُفزعه وينال من راحته ، إلا عندما جلس معها
وتحدث إليها ، أطفت عليه الهدوء والسكينة . . أما عذاب ، فقد أعجبها ذلك الشاب
الثائر ، الذى إستطاعت أن تؤثر فيه بهدوئها ورقتها وعذوبتها ، شغل بالها ، وظل
عالقاً بعقلها .
وفى اليوم
الثالث . . كانت عذاب جالسة ، تؤدى عملها فى مكتب المحاسبة الذى تعمل فيه ، وفجأة
دخل عليها ذلك الشاب الثائر / ولاء ، لم تكن هى تتوقع مجيئه ، حين أخبرته بأنها
تعمل هنا ، ولكنه الآن جاء ، وكأنها كانت فى إنتظار مجيئه ، إبتسمت له ورحبت به
وأجلسته أمامها ، وطلبت له كوباً من عصير الليمون ، وقالت له وهى تضحك : بالتأكيد
لن ينفعك سواه ، سألته عن أحواله وسألها عن أحوالها ، ما أراد أن يجلس طويلاً فى
مكان عملها ، كى لا يسبب لها إحراجاً ، تردد قليلاً ثم طلب منها اللقاء ، بعد أن
أبدى إعجابه الشديد بها . . ما كانت عذاب تملك ألا تقبل ، وأنّى لها أن ترفض ، وهى
التى كانت فى إنتظاره ، وإتفقا على اللقاء ، نهض ولاء وهو سعيد مسرور، ليودعها على
أمل اللقاء ، وودعته وهى سعيدة مسرورة ، فقد تحقق لها ما أرادت ، ودق الحب لأول
مرة باب قلبها ، علمت أنه الحبيب ، وها هى تفتح له الباب ، ليدخل ويسكن قلبها .
مرت الأيام
، وتعددت اللقاءات ، وتواعد الإثنان على الحب والزواج ، وطلب ولاء إمهاله الفرصة
لتثبيث قدميه فى عمله الجديد ، ثم يتقدم لخطبتها ، قبلته عذاب ، وقبلت أن تبقى إلى
جواره ، إنهما أبناء وطن واحد ، ومعاناة واحدة ، ليس لأحدهما أفضلية عن الآخر. .
إرتبط الإثنان برباط الحب ، حلما معاً بحياة سعيدة ، وسعيا معاً لتحقيقها ، كانت
الأسابيع والشهور تمر وتنقضى ، وكلما مرت وإنقضت ، إزداد تعلق كل منهما بالآخر. .
عذاب فتاة رقيقة وجميلة ، وولاء شاب ثائر وطموح ونشيط ، صار ولاء مُحباً ومغرماً
بعذاب ، وأصبح هوكل أملها وحلمها فى الحياة ، وصارت عذاب هى حورية الجنة التى
ينتظر ولاء الفوز بها ، بعد مشوار من الكد والعمل والكفاح ، جمعهما الحب ، وقارب
بينهما الحلم والأمل ، ومزجت بينهما المعاناة الواحدة .
وفى أحد
الأيام . . ذات مساء ، كانت عذاب خارج البيت برفقة أمها ، لشراء بعض لوازم الحياة
، وبينما هما فى سوق المدينة ، إذ بعذاب تقع عيناها على ولاء ، وهو يسير وبصحبته
فتاة ، فى مثل سنها تقريباً ، كانا يتبادلان الحديث ويضحكان ، وهما يمشيان الهوينا
، لم يرى ولاء عذاب ، ولكنها رأته بصحبة الفتاة ، وما إرتاحت لرؤياه هذه المرة ،
وهى التى كانت دائماً تتمنى رؤياه ، تلك هى المرة التى ما كانت تتمنى ألا تراه
فيها ، ثارت غيرتها ، ولعب الشيطان برأسها وعقلها لعبته المفضلة ، غلبها الشيطان
هذه المرة . . عادت عذاب إلى بيتها وهى لا تدرى أين رأسها وأين قدمها ؟ دخلت إلى
غرفتها ، وجلست تحدث نفسها : تُرى من تلك الفتاة التى معه ؟ إنها ليست أخته لأن
أخته صغيرها عمرها خمسة عشر عاماً ، ولماذا كانا يضحكان هكذا ؟ وفيم كانا يتحدثان
؟ ولماذا كانا يمشيان الهوينا كما رأيتهما ؟ ما إستطاعت عذاب أن تنام الليل بطوله
، وما داعب جفونها النوم قط ، لقد عقدت العزم على الذهاب إليه فى عمله صباح اليوم
، لنسأله عمن كانت تلك الفتاة ؟وعلام كانا يضحكان ؟ وفيم كانا يتحدثان ؟ ولماذا
كانا يمشيان الهوينا هكذا ؟ . . أشرقت الشمس وطلع النهار ، لم تذهب عذاب إلى عملها
، وفى تمام الساعة العاشرة ، إرتدت ملابسه وخرجت ، متجهة إلى شركة المقاولات حيث
يعمل ولاء ، دخلت إلى الشركة ، وسألت عنه أحد السعاة ، فأخبرها بمكانه ، إنطلقت
عذاب مسرعة إلى حيث مكتبه ،كان قلبها يدق دقات عالية ، وكأنه يُحذرها ألا تذهب
إليه ، لم تكن عذاب تدرى ما الذى ينتظرها ، توجهت إلى حيث مكتب ولاء ، ودخلت عليه
المكتب فجأة ، فوجدته جالساً على مكتبه وسط زملائه وزميلاته ، وبحاسة الأنثى ،
دارت عيناها بنظرة سريعة ، تنظر وجوه الجالسين ، وقعت عيناها على تلك الفتاة التى
كانت برفقته بالأمس ، إنها زميلته فى العمل تجلس على المكتب الذى أمامه ، أوحى لها
عقلها بأنها ليست بحاجة الآن إلى الحديث مع ولاء ، ولا سؤاله عن الفتاة التى كانت
معه بالأمس ، ولا سؤاله عما كان يجول بخاطرها من أسئلة ، لقد أجابها الشيطان –
لعنه الله – على كل شئ ! وما عادت بحاجة إلى أن تسأله عن أى شئ !
إستدارت
عذاب بوجهها ، وخرجت مُسرعة من المكتب ، إنطلق ولاء خلفها مُنادياً عليها عدة مرات
، ما أعارته إهتماماً ، وما ألقت له بالاً ، تركته ينادى وينادى وينادى ، كانت
تسرع الخطى كى لا يلحق بها ، ما أعطته الفرصة قط ، كى يبين لها ما خَفى عنها ،
سيطر عليها الشيطان ، وأقنعها بأن ما رأته عيناها فيه الكفاية . . عاد ولاء إلى
مكتبه ، بعد أن أخفق فى اللحاق بها ، وطمأن نفسه بأنه سوف يلقاها ، ويسألها عما
بها فيما بعد . . وما كان يدرى أنه لا هناك بَعد ! !
إنتهى يوم
العمل ، وعاد ولاء إلى بيته ، حاول الإتصال بعذاب عن طريق الهاتف دون جدوى ، لقد
أغلقت هاتفها ، ولم تعد ترغب فى الحديث إليه !
إتصل بها عشرات المرات ، وما تحدثت إليه . . إنتظر حتى إنقضى الليل وطلع
النهار ، ذهب إليها فى مكان عملها فلم يجدها ، أخبروه أنها إتصلت وإعتذرت عن
الحضور ، وطلبت أجازة مفتوحة لمرافقة أمها فى رحلة علاجها إلى مصر ، ظل ولاء يحاول
الوصول إلى عذاب ، ما فلحت محاولاته ، مر يومان وثلاثة وخمسة وعشرة ، وما عادت
عذاب ، وما إتصلت بولاء ، وما ذهبت إلى عملها ، وما يدرى عنها شيئاً .
وذات مساء
. . جلس ولاء ، ليكتب إليها رسالة حب ورجاء ، يناشدها الرجوع إليه ، لعلها تعود ،
أمسك بقلمه ، ويداه ترتعشان ، ولكنه أصر على مواصلة الكتابة لحبيبة قلبه عذاب ،
وقال لها :
حبيبتى
. . . عذابى ! !
ما بالكِ
تبتعدين عنى هكذا . . . فجأة ؟
وما بال قلبك يقسو ويذهب حنانك . . . فجأة ؟
وما بال
عقلكِ ينسى أنى عشقتكِ . . فجأة ؟
وما بال حبكِ لى وعشقكِ ينتهيان . . . فجأة ؟
وما بالكِ
أنتِ . . و ما فيكِ . . تتركينى وحيداً . . . فجأة ؟
حبيبتى
. . . عذابى ! !
هل نسيتينى
، وضاع منكِ الحلم . . فجأة ؟ أم غَفوتِ
عن ولائكِ ، وسَهوتِ عنى . . فجأة ؟
أم يا ترى
وسوس الشيطان ، وإنصرفتِ عنى . . . فجأة ؟
أم ظننتِ
إحداهن ، شغلتنى عنكِ . . فجأة ؟ أم
وجدتِ العهد طال ، وخلفتِ الوعد . . فجأة ؟
حبيبتى
. . . عذابى ! !
لم أذق
للنوم طعماً ، منذ أن ذهبتِ . . فجأة !
لم أجد نفسى وروحى ، ضاعت الأحلام. . فجأة!
لم يكن
يوماً بظنى ، أن فيكِ القتل . . فجأة !
لم أرى عينيكِ يوماً ، تخنق الأحلام . . . فجأة !
لم يدر فى
خلدى أبداً ، أن أعانى منكِ . . . فجأة !
حبيبتى
. . . عذابى ! !
عودى . .
لا تقتلى آمالى فيكِ أو أحلامى ! عودى . . ما عُدت دونكِ أشتهى عيشى وحياتى!
عودى . إنى
غَدوت بدون قربكِ لا أبالى ! عودى . أنتِ
شمسى أنتِ قمرى أنتِ أرضى وسمائى!
عودى . .
إلى أحضان قلبى واسكنى روحى وفؤادى ! ! !
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق