رَحل
ساكن القصر . . . وبكت عليه السماء ! !
--------------------------------------------
وظل ساكن
القصر فى القصر وحيداً ، تمر الأيام والليالى ، وفى كل يوم يُمنى نفسه بأنها سوف
تجئ إليه ، ويمر اليوم تلو اليوم وما تجئ إليه ، إنها أقسمت بألا تدعه يسكن القصر ،
سمعتها كل الدنيا وهى تُقسم ، إلا هو لم يسمعها قط ، وما أراد أن يصدق العصفور حين
أخبره بأنها أقسمت بألا تدعه يمكث فى قلبها أو يسكن قصرها ، ما صدق إلا رسالتها
التى كتبتها إليه ، وقالت له : أنها تحبه ، وتتمنى قربه ، وتريد له أن يد خل إلى
قلبها ، ويسكن قصرها ، ولم يكن يدرى ما وراء الرسالة ، وها هو يسكن القصر ، ويمكث
بداخله ، ينتظر مجيأها كل يوم . . . إعتاد
كل صباح أن يقف خلف النافذة حتى مغيب الشمس ، ينظر إلى بوابة القصر ، فلعلها تميل
إليه ، أو يرق قلبها لحاله ، فتأتى لتعيش بجانبه ، تؤنس وحدته ، وتُريح قلبه وعقله
، وتحيا معه فى ظلال الحب . . . مرت عشرة أيام ، ولم يتبد ل أو يتغير الحال ، فى
كل يوم كان ساكن القصر يُمسك برسالة حبيبته ، يقرأها عشرات المرات ، كان يقرأها
بصوت عالى ليُسمِع كل ما فى القصر، نوافذها ، حوائطها ، فرشها ، سرائرها ، صورها ،
كل ما يخصها ، فيشهدوا جميعاًعلى أنه ما جاء إلى هنا إلا لأنها تحبه ويحبها ، ربما
منعتها أشياء من المجئ إليه ، ولكنها لم تنسه أبداً ، ظل يردد كلماتها إليه كل
صباح ومساء ، مرات ومرات ومرات ، حتى حفظتها كل جنبات القصر .
ولكن . . .
بدأ الشعور بالوحدة يتسرب إلى نفسه ، إنه يعيش وحيداً فى قصر فسيح ،لا يحدثه أحد ،
ولا يرى أحد ، منذ أن أوصد عليه باب القصر ، وأغلق نوافذه ،وأسدل ستائره ، حتى
البستان ما عاد يخرج إليه ، وما عاد يمرح بين الورود والزهور ، يداعبها وتداعبه ،
وما عادت تتمايل فوق رأسه الفروع والأغصان ، ويجوب حوله النسيم مُحملاً بالعطر
والريحان . . . أغلق كل النوافذ ، وأسدل كل الستائر ، وهجر كل الحجرات ، وإفترش
الأرض فى باحة القصر ، ينتظر مجيأها ، ليفتح النوافذ من جديد ، ويُزيح الستائر من
جديد ، ويخرج إلى بستان القصر ، وهى معه ، يداعبا الورود والزهور ، ويسمعا زقزقة
العصافير وشدو الطيور ، و حتى الآن لم تجئ . .
إنقضت عشرة
أيام أخرى ، وبدأ اليأس ينال من همته وعزيمته ، وكلما مرت الأيام ، وتوالت الليالى
، تمكن منه اليأس أكثر وأكثر ، ما عاد يُحدِ ث نفسه بمجيئها ، وما عاد يُمنى نفسه
بقدومها ، ولا يستطيع أن يغادر القصر ، كيف يغادره ؟ وهو ما أتى إليه إلا ليحيا
بجوارها ، فى قصرها ، لم يعد له مكان فى هذا العالم يأويه ، ضاقت به الد نيا
بأسرها ، إلا هنا . . ، هنا حبه ، هنا قلبه ، هنا عقله ، هنا حُلمه ، هنا أمله
،هنا وجوده وكل كيانه . . لقد صار جزءً من هذا القصر ، وصار القصر جزءً منه ، عَشق
العيش فيه ، فى إنتظار حبيبته ، معشوقته ، حياته ودنياه . . كان يكفيه أن القصر
قصرها ، وأنه يسكن فيه ، وهو بذلك فى قربها ، ولم يكن يدرى ما تخبئه له الأيام .
ومرت عشرة
أيام ثالثة . . وتأكد له أنها لن تأتى إليه ، وتمكن منه الأم والحزن أكثر وأكثر ،
وفقد الأمل فى مجيئها . . ما عاد يشعر بنبض الحياة ، وما عاد الدم يجرى فى عروقه ،
تمكن منه اليأس وهزمه ، أضعفه وأوهنه ، نال منه وأوشك أن يقضى عليه ، إنها علامات
الإنهياروالسقوط ، إنها أمارات الهلاك
والفناء . . هنا فقط تذكر قول العصفور له :
" إنك تسعى إلى الهلاك ، ولن تدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان "
، وها هو الأوان قد آن ، وما عادت تقوى على حمله قدماه ، فوقع فى باحة القصر ، وهو
ممسك برسالتها ، ويداه ترتعشان ، وأخذ يقرأها للمرة الألف ، ويردد كلماتها بصوت
ضعيف ويقول لنفسه : لقد قالت أنها تحبنى ، وأنها لا تقوى على فراقى ، وأدخلتنى
قلبها ، وتركتنى أسكن قصرها ، فلماذا تركتنى وحيداً هكذا ؟ إنى أحبها . . إنى أحبها . . إنى أحبها . . وظل يرددها ،
حتى غلبه النعاس ، وراح فى سبات عميق ، والرسالة فى يده .
وفى صباح
اليوم التالى . . . اليوم الحادى والثلاثين منذ سكن القصر وحيداً ، كانت الطيور
والعصافير تحلق بالقرب من القصر ، تذكر العصفور الذى كان قد حادثه من قبل ، أنه لم
يأت ناحية القصر منذ حد يثهما ، عَنّ للعصفور أن يلقى نظرة عليه ، قبل أن يهاجر مع
جماعة الطيور ، فها هو الصيف قد أوشك على الإنتهاء ، وإقترب موعد هجرة الطيور ،
وربما لا يتمكن العصفور من رؤياه ، إلا بعد شهور ، فمال العصفور بجناحيه ناحية
القصر ، لعله يجده فيلقى عليه تحية الوداع على أمل اللقاء ، إقترب العصفور من
القصر أكثر وأكثر ، وجد النوافذ مُغلقة ، والستائر مُسدلة ، والقصر مُظلم ، ولا
يمكنه الرؤية ، إنتابه شعور خفى بأن ساكن القصر فى داخله ، وأنه لم يغادره ، إشتم
العصفور رائحته تحيط بالقصر ، تأكد للعصفورأنه بداخله ، فطار العصفور وأعتلى قبة
القصر ، ونظر من أعلى فتحة القبة ، فوجد ساكن القصر مُلقى على الأرض فى باحة القصر
، أقلقه الأمر ، فإندفع بسرعة إلى داخل القصر ، حيث يرقد ساكنه ، مُمداً على ظهره ،
ومُمسكاً رسالتها بيده على صدره ، ومُغمضاً عينيه ، ظنه العصفور نائما ً ، فأراد
أن يوقظه كى يودعه قبل الرحيل ، فأخذ يزقزق بجوار أذنيه لعله يستيقظ ، فلم تنتبه
عيناه ، ظل العصفور يزقزق ويزقزق ، وما إستيقظ ساكن القصر ، قلق العصفور لعدم تنبهه
، فوضع رأسه الصغير على صدره ، وأصابته الصدمة ، ياللمصيبة . . إنه لا يتنفس ،
نقره العصفور فى يده بقوة ، ماتحركت يداه . . . حينئذ . . أيقن العصفور أن ساكن
القصر قد مات ، إنتفض من الهول ، وإنطلق مسرعاً يتخبط داخل القصر ، يريد الخروج من
القصر، إصطدمت جناحيه بحافة القبة وجُرحت ، ولكنه لا يأبه ، خرج من قبة القصر ،
وأخذ يحلق فوق القصر وهو يصرخ ويصيح بأعلى صوته ، مردداً : لقد مات ساكن القصر . .
لقد مات ساكن القصر . . لقد مات ساكن القصر ، ملأ الدنيا صراخاً وعويلاً ونواحاً ،
سمعت بصراخه الورود والزهور والفروع والأغصان فى بستان القصر ، وأدركت أن ساكن
القصر قد مات ، فأخذت تميل إلى الخلف وإلى الأمام ، وكأنها تنوح وتبكى عليه ، وصل
صراخ العصفور إلى كل بقاع الأرض ، سمعته الطيور كلها ، فهرولت مسرعة إليه ، تستبين
سبب صراخه وعويله ونواحه ، أخبرهم العصفور بأن عزيزهم ساكن القصر قد مات ، إنطلقت
كل الطيور إلى داخل القصر ، فوجدت ساكنه ملقى على الأرض فى باحة القصر ، وقد
فارقته الحياة ، وقفوا حوله بالآلاف ينظرون إليه ، وكأنهم يلقون عليه نظرة الوداع
الأخيرة ، وبدأت الطيور تتوافد من كل بقاع الأرض ، لتلقى نظرة الوداع عليه . . .
وبينما تتوافد الطيور على القصر ، شاهدها أحد الحراس القدامى للقصر ، هاله ما رأى
من بعيد ، هرول مسرعاً ناحية القصر ، فوجد الطيور تحلق فوق القصر ، وهى تبكى وتنوح
، هرول إلى باب القصر وفتحه ، فرأى ساكن القصر ميتاً ، ومن حوله الطيور تنظر إليه
، وهى واجمة وحزينة . . إنطلق الحارس فأحضر بقية حراس القصر ، بعد أن أخبرهم بما
رآه وسمعه ، جاءوا جميعاً كي يلقوا نظرة الوداع عليه ، ودخلوا القصر ليحملوه على أعناقهم ويذهبوا به
إلى مثواه الأخير . .
وفجأة . .
إشتد ت الريح وزمجرت ، وهبت عاصفة لم يكن موعدها قط ، وفى دقائق تجمعت السحب فوق
القصر ، وحجبت أشعة الشمس ، تعجب الحراس مما حدث ، حمله الحراس على أعناقهم
ليخرجوا به من باحة القصر ، وبمجرد أن داست أقدامهم عتبة القصر ، أمطرت السماء
بشدة فى غيرموعدها ، إنها ليست أمطاراً ، ولكنها دموع السماء تزرفها عليه ، حزناً
وألماً لفراق صاحب قلب أبيض نقى ، طيب صالح تقى . . أبرق الرعد لحظه خروجه من
القصر ، وكأنه طلقات المدفعية تحيى فقيد الإنسانية ، مر به الحراس فى البستان ،
وقفت له الورود والزهور واجمة وصامتة ، وسكنت الفروع والأغصان لا تتحرك . . خرج به
الحراس من بوابة القصر ، وهم يسيرون بخطوات جنائزية ، تمطرهم السماء بدموعها ، ومن
خلفهم حلقت الطيور فى مئات الصفوف ، يتقدمهم ذلك العصفور الوحيد الذى إقترب منه ،
وتحدث إليه ، وعرف حاله ، وأشفق عليه ، كان هذا العصفور أكثر الطيور حُزناً ، وهو
يتقدم الصفوف وينوح ، ويردد بأعلى صوته : يا ليته قد سمع نصيحتى إليه ! ، لقد
أخبرته بأنها أقسمت بألا تدعه يسكن قصرها مهما كان ، وأنها سوف تدمره إذا إقتضى الحال
، وأنها شقية لا تبغى الحياة ، ولن يناله منها إلا العذاب ، ونصحته بأن يترك القصر
ويرحل ، إنه قصرها ، فليدعها تهدمه فوق رأسها ، إنها تريده خَرباً ومظلماً ، لم
يستمع لكلماتى ، خدع نفسه برسالتها ، ياليته قد سمع ، وياليته ما خدع ! !
إنها أقسمت
ألا تدعه يسكن القصر ، وأقسمت أن تخرجه منه ، وها هى أخرجته ، بعد أن قتلته حباً لها
، وحزناً لفراقها ، قتلته الوحدة ، وقتله عناده فى حبها ، وما كانت تستحق أن يضحى
بحياته من أجلها . . وظل العصفور ينوح وينوح طوال الطريق ، لقد كان مشهداً
جنائزياً مهيباً . . .لم تشهده كل بقاع الأرض من قبل . . ولن تشهده من بعد !
!
سمعت صاحبة
القصر صوت الرعد والبرق ، وتعجبت لهطول الأمطار فى فصل الصيف ، فأسرعت إلى النافذة
، تستطلع الأمر ، فأبصرت مشهداً لم تبصره من قبل ، ها هم حراس قصرها قد عادوا ،
ولكنهم يحملون ساكن القصر على أعناقهم ، والطيور من خلفهم تبكى وتنوح . . تُرى
ماذا حدث ؟ وماذا وقع ؟ ترامى إلى مسامعها صوت أنين خافت ، نظرت خلفها ، ووقع
بصرها على قلمها فوجدته يبكى هو الآخر . . فأمسكت به فى يدها ، وقالت :
سألته : ما
الذى يُبكيك أيها القلم ؟ أجبنى ؟ وما الذى أراه خارج القصر ؟
رد القلم (
بصوت حزين ) : لقد مات اليوم ساكن القصر . . دخلوا عليه القصر وجدوه ميتاً .
سألت : ومن
أخبرك بذلك ؟
قال القلم
: ألم أقل لكِ سابقاً ، أن قلمه صديقى ، لقد أخبرنى فجر اليوم أنه مات ، وقبل أن
يعلموا ، لقد مات وهو مُمسك برسالتك بيديه وبين أحضانه .
لم تتمالك
نفسها من هول المفاجأة ، وأجهشت بالبكاء بصوت عالى ، وأطلقت صرخة مدوية ، حتى كادت صرختها أن تهتز لها الأرجاء ، فتعجب
القلم لصراخها وبكائها هكذا .
وسألها :
لماذا بكاؤكِ الآن ؟ أما كنتِ تريدينه أن يرحل من القصر ؟ لقد رحل عنكِ وترك لك
الدنيا بأسرها ، لقد قال لى قلمه انه مات وحيداً فى قصرك ، حزيناً على فراقك ، لقد
قتلته .
قالت ( وهى
تصرخ فيه ) : أسكت . . لا تقل إنى قتلته . . أنت لا تعرف شيئاً ، أنت لا تعرف كم
أحبه ، وكم كنت أهوى القرب منه ، ولكنى ما أردته أن يمتلكنى قط ، حياتى أبداً لن
يمتلكها أحد .
قال القلم
( ساخراً ) : كم أنتِ عنيدة ومتمردة ، سيطر عليك عنادك ، وغلبتكِ
أنانيتك ، حرمته منك ِ ، وحرمت نفسك من العيش مع من يهواكِ ، هو أراد لكِ الحياة ،
وأنتِ لم تردى له الحياة ، هذا هو الفرق بينكما ، كنتِ بالنسبة له حبه ، وقلبه
وعقله وروح فؤاده ، أما هو فلم يكن لكِ شيئاً .
قالت :
ولكننى لم أقتله ، ولم أقضى عليه . . إننى حزينة لفراقه ! !
قال القلم
( مستنكراً ) : لا . . لقد قتلته حين حرمته من أن يعيش الحب معكى فى القصر ،
وأقسمتِ ألا تدعيه يسكن القصر ، تباً لكِ ، وتباً لهذا القصر . . وها هو قد ترك
لكِ قصرك ، وترك لكِ الدنيا بأسرها ، ذهب إلى حيث يستريح ، لقد أتعبه حبكِ ، وآلمه
وأحزنه كثيراً ! !
وعندئذ . .
إرتعشت يداها وإهتز القلم ، ووقع من يدها على الأرض ، وسمعته يقول : لقد أقسمتِ
ألا تدعيه يسكن قصرك مرتاحاً حتى مات ، وأنا لن أدعك تخطى بى كلمة حتى تموتين ، ما
عُدت أصلح لكِ قلماً بعد سنين ، إبحثى عن غيرى ، فلن أدعكِ تكتبين بى بعد اليوم !
!
مرة أخرى .
. . أجهشت صاحبة القصر فى البكاء ، لقد أدمى قلبها فراق حبيبها ، وأحزنها حديث
قلمها . . أيقنت أنها ما كان يجب ألا تذهب إليه . . وما كان يجب أن تحرمه منها وان
تحرم نفسها من حبه . . وما كان يجب أن تُقسم ألا تدعه يسكن قصرها . . وما كان يجب
أن تتركه يعانى وحيداً حتى الموت .
واليوم . .
ها هو قد ترك لها القصر ورحل . . وأحزن رحيله كل الدنيا . . وبكت لرحيله كل
المخلوقات . . حتى السماء بكت عليه وأمطرت
فى غير موعدها . . . .
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق