غابت .
. . . وغابت معها الشمس .
--------------------------------
هناك أناس
خلقهم الله تعالى مثلنا ، لهم نفس تكويننا وعقولهم كعقولنا ، يأكلون ويشربون كما
نأكل ونشرب ، ويروحون ويجيئون ، ويتكلمون ويصمتون ، ويفرحون ويحزنون ، كل شئ فيهم
كما فينا تماماً ، تبصرهم العيون فلا تميز فيهم الإختلاف عن باقى البشر ، نقابلهم
كل يوم ويقابلوننا ، نحدثهم ويحدثوننا ، لا نشعر أن فيهم ما يختلف عنا ، مهما
أمضوا بيننا من الأيام والشهور والسنين ، عاديون طبيعيون بسطاء ، نحسبهم دائماً
مثلنا وما هم مثلنا ، إنهم مختلفون عنا فى شئ لا تدركه حواسنا ، ما داموا بيننا
ومن حولنا . . ولكنهم فى الحقيقة يختلفون عنا كل الإختلاف ، بيننا وبينهم فرق شاسع
وكبير ، هم ليسوا مثلنا ولسنا مثلهم ، إنهم أناس إذا حضروا حضر معهم كل شئ ، وإذا
غابوا عنا غاب معهم كل شئ .
عرفها منذ
أسابيع قليلة . . لم يلتق بها ولم تبصرها عيناه ولم تسمع صوتها أذناه ، عرفها من
خلال إحدى المواقع الألكترونية ، قرأ لها مقالاً فى شأن من شئون السياسة ، فهو
يهوى القراءة فى كل شئ وعن أى شئ ، منذ سنوات طويلة ، وحين شعر أن لديه فكراً
ورأياً فى كل ما حوله ، أمسك بقلمه كى يُخرج ما بداخله ، بدأ الكتابة فكانت من
أوائل قرائه ، قرأت له وقرأ لها ، كتبت تعليقاً ورأياً فى مقال له ، فبادلها الرأى
والتعليق ، وجد فيها ضالته ، حيث يهوى مناظرة الفكر بالفكر والرأى بالرأى والحجة
بالحجة ، وله باع وذراع ومشوار طويل فى الحواروالنقاش ،حماستها جذبت إنتباهه ، وتمسكها برأيها
وإصرارها نال إعجابه ، بداخلها قضية تدافع عنها – بصرف النظر عن صحتها – ولكنها
صاحبة قضية ومبدأ ، لا ترضى أن تحيد عنه أبداً ، أحس أن لها روح المحاربين ،
وشجاعة المقاتلين ، وعقيدة المجاهدين ، وشعر أن بداخلها جذوة من نار ، كلما حاول
أن يصب عليها من ماء قلمه ليطفأها لم يفلح ، وعادت للإشتعال مرة ثانية وثالثة
ورابعة ، رأى فيها ذلك النوع من النساء،اللاتى توقف عندهن التاريخ ليسجل لهن
مواقفهن الصامدة الواقفة المتحدية الصلبة والعنيدة . .
كل ذلك
إستطاع أن يستنبطه من سطورها وكلماتها وحروفها ، حتى العلامات والفواصل كانت تنطق
بما يسبقها وما يليها ، غا ص كثيراً فى أعماق مقالاتها ، ليقرأ مابين السطور وخلف
الكلمات ، وما فوق وتحت الحروف ، فهو كعادته يعشق التحليل فى الصغير والكبير ، ولا
يكتفى بما تنطق به الحروف والكلمات ، فليس معنياً بما تقوله الحروف وتنطق به
الكلمات ، ولكنه معنى أكثر بما لم تقله الحروف ولم تنطق به الكلمات ، ففى علم
الكلام ، الكلمات والحروف ليست مجرد علامات ونقوش ، وإنما تخفى وراءها سراً لم
تنطق به فى العلن ، كل كلمة وكل حرف وكل علامة وكل فاصلة ، تبوح بالسر لمن يعطيها
وجدانه وجوارحه ، لا لمن يعطيها أذنيه ، تبوح بسر من أمسك بالقلم ونقش الحرف ثم
الكلمة ، ووضع العلامة والفاصلة ، وخط السطر بعد السطر ، وصاغ الفقرة تلو الفقرة ،
ليشيد مقالاً يصير عنواناً لشخص كاتبه ، يبوح بسره وملامح كنهه ، ومنبع أفكاره
وثقافته ، ومكنونات صدره ، وكل أوصافه وسماته .
هكذا عرفها
على حقيقتها ومن داخلها ، فى أسابيع قليلة ، من خلال كلماتها وحروفها ، أصبح يطارد
ما تكتبه ليقرأ ويقرأ ويقرأ ، ثم يبدأ النقاش والحوار معها ، الفكرة بالفكرة
والرأى بالرأى . . وبين يوم وليلة ، أمسى شغوفاً بأفكارها وآرائها ، متلهفاً
لقراءة مقالاتها وإبداء رأيه فيها ، متمنياً أن تقرأ هى ما يكتبه وتبدى الرأى فيه
. . لقد صار رأيها أهم وأحب الآراء إلى نفسه .
وفجأة . .
وبلا أية مقدمات ، حل يوم ما كتبت فيه شيئاً ، ظل يبحث فى صفحة مقالاتها لعله يجد
شيئاً فلم يجد ، أحزنه كثيراً أنها لم تكتب وأنه لم يقرأ لها ، وإنقضى اليوم وتلاه
يوم آخر ، ما كتبت فيه شيئاً ، وظل يبحث فلم يجد ما يريد ، وإنقضى الثانى وجاء
الثالث ، وما كتبت فيه شيئاً . . فى حينها شعر أن شيئاً ما قد راح منه ، أحس أن
عقله على وشك أن يفقد نظيره ، وأن فكره على وشك أن يعود سجيناً ، وأنه هو على وشك
أن يصير وحيداً . . . حينئذ أيقن أنها من ذلك النوع الذى إذا حضرت حضر معها كل شئ ، وإذا غابت غاب
معها كل شئ ، حتى الشمس غابت معها ولم تعد تشرق ! ! ! وإلى مقال آخر إن
شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق