الأحد، 28 أكتوبر 2012

و لم تكن تدرك . . . . أنها بذلك تفقده ! !


ولم تكن تدرك . . . . أنها بذلك تفقده  ! !
-------------------------------------
كان عمر أصغر أشقائه عُمراً ، فقد كان هو الولد الوحيد بين أربع فتيات ، كن جميعهن أكبر منه ، وقد توفى أبوه وهو فى سن الخامسة وتركه صغيراً ، كانت أمه – رحمها الله -  ربة منزل ، وكانت أماً عطوفة وحنونة كسائر الأمهات ، أدركت بعد موت أبيه أنه قد أصبح يتيم الأب ، فأرادت أن تعوضه عن ذلك ، وأعطته كل إهتمامها وحنانها ورعايتها . . وكان عمر طفلاً هادئ الطباع ، ولم يكن مثل باقى أقرانه يهوى اللعب كثيراً أو الخروج من البيت ، إلا مع إحدى شقيقاته أو أمه ، حتى عندما إلتحق بالمدرسة الإبتدائية التى كانت قريبة من بيته ، كان يروح ويغدو فى هدوء وسكينة ، ولم يكن مُثيراً للمشكلات أو الأزمات مع زملائه أو أقرانه ، فكان يُحسن إختيار أصدقائه الذين يقترب منهم ويسمح لهم بالإقتراب منه ، وإستمر عمر على هذا النهج وتلك الخصال إلى أن أنهى تعليمه الجامعى ، فكان يميل إلى الهدوء والتفكير والتأمل والتحليل ، وإنحصرت هواياته طوال سنوات عمره فى القراءة ولعب الشطرنج وممارسة الرياضة ومشاهدة الأفلام التاريخية والأفلام الدرامية الهادفة ، فلم يكن يهوى أفلام الحركة أو العنف الشديد .

هكذا نشأ عمر . . وسط جو من الهدوء والإستقرار النفسى والعائلى ، وزخم من الحنان والعطف والرعاية ، كانت أمه دائماً تشعره بأنه الإبن الأول والأخير فى حياتها ، وكانت حريصة على إرضائه بشتى السُبل فى حدود العقل والحكمة . . كبر عمر وكبرت معه كل طباعه وخصاله التى تربى عليها ، فكان حريصاً كل الحرص على أن يهتم بمن يحبهم ويحبونه إهتماماً من نوع خاص ، وينتظر أن يبادلونه هذا الحب وذلك الإهتمام على ذات المستوى ، كان يدرك تماماً أن الحياة  بذل وعطاء قبل أن تكون أخذاً ، ولم يكن يرضى بأن يكون إهتمام الآخرين به أقل من إهتمامه بهم ، نما معه الإباء وعزة النفس ، وكان حريصاً دائماً على إحترام الآخرين فى كل أقواله وأفعاله ، لذلك كان محبوباً مُهاباً مُحترماً ممن تعاملوا معه أو إقتربوا منه ، ولم يكن يرضى لنفسه أن يضعها موضعاً لا يليق بها ، وحتى بعد أن تخرج من الجامعة وعمل فى مجال القانون ، كانت تلك هى ضوابط علاقته بزملائه وأصدقائه فى العمل .

وذات يوم من الأيام ، أثناء الإنتخابات وأمام إحدى اللجان الإنتخابية ، ولدى خروجه من اللجنة وإدلائه بصوته ، إقتربت منه فتاة فى منتصف العشرينات من العمر ، تبدو عليها علامات الحيوية والنشاط والجدية ، تضع بطاقة تعريف على صدرها ، وألقت عليه التحية قائلة : إسمى سلمى إحدى عضوات جمعية تنمية المجتمع التابعة لهذا الحى ، ومسئولة عن مراقبة عملية الإنتخاب ومدى إنتظامها ، وسألته عن رأيه فى سير العملية الإنتخابية ، فأبدى الرأى بكل موضوعية وحياد ، فقد كان عمر يؤمن دائماً أن تصحيح أى مسار يبدأ من مواجة المشكلات بكل موضوعية وحياد ، وإعطاء كل أمر قدره ، أبدى عمر رأيه إلى سلمى ثم حياها وإنصرف . . . ولكنه أحس ساعتها بأن شيئاً ما فى هذه الفتاة قد شد إنتباهه ، فعاد إليها مرة أخرى ليُبدى رغبته فى المشاركة معها فى نشاط تلك الجمعية ، أعطته رقم هاتفها المحمول ، وطلبت منه الإتصال بها بعد يومين ، فحياها وإنصرف.  

ولكن . . شيئاً ما ظل عالقاً بذهن عمر ، حتى بعد أن غادرها ، وظل مشغولاً بها بقية اليوم ، أحس عمر أن شيئاً ما قد ربط بينهما ، ما هو ؟ لا يدرى ! ! ولكنه صار مشدوداً إليها ، وظل يتعجل مرور اليومين كى يتصل بها ، وبالفعل هاتفها بعد يومين ، لتحدثه وتطلب منه مقابلتها بمقر الجمعية بعد ساعتين ، كان صوتها ساحراً له أثناء مكالمته معها ، هكذا شعر عمر . .
وبعد ساعتين كان عمر فى مقر الجمعية ، فوجد سلمى فى إنتظاره ، إنتحت به جانباً وجلسا لتحدثه عن طبيعة نشاط الجمعية وشروط الإنضمام لعضويتها ، بعد أن طلبت له كوباً من الشاى ، إستغرق حديثهما قرابة الساعة . . لم يكن عمر بطبيعته يميل إلى ممارسة هذا النوع من النشاط الإجتماعى ، الذى يتطلب كثرة الحركة والنشاط والتواجد المستمر وسط الناس فى الشارع والإلتحام بهم لحل مشكلاتهم ، ولكنه وجدها فرصة سانحة للقرب من سلمى .

تعددت اللقاءات بين عمر وسلمى ، داخل مقر الجمعية وخارجها ، إقترب كلاهما من الآخر كثيراً ، وأبدى كل منهما للآخر إرتياحه معه ، فقد كان عمر فى منتصف الثلاثينات من العمر ، هادئ الطباع ، يتسم بالعقل والرزانة وسعة الأفق ، وكان مُثقفاً ذا معرفة واسعة فى مجالات عديدة ، وكانت سلمى فى منتصف العشرينات ، نشيطة ومتحركة وجادة ، تهوى التعامل مع الناس بحرية عاقلة ومنضبطة ، وكانت لها صفحة على موقع التواصل الإجتماعى الفيسبوك ، تتواصل من خلالها مع الآخرين ، كل هذ أعجب وأدهش ولاقى إستحسان عمر فى سلمى . . . . ولكن ! !

بمرور الوقت شعر عمر أنه يزداد تعلقاً بسلمى يوماً بعد يوم ، ويهوى الحديث معها لساعات وساعات ، وأحست سلمى بإرتباطها الشديد بعمر ، ولكنها بحكم إهتماماتها ونشاطاتها المستمرة والمتواصلة ، لم تستطع أن توفر له ذلك القدر من التفرغ والإهتمام والقرب الذى كانت ترنو إليه نفسه ، كانت تنشغل عنه كثيراً ، حاول التواصل معها بشتى الطرق ، حتى أنه صار مهتماً بالدخول إلى صفحتها على الفيسبوك ، ليقرأ ما تكتبه ويعلق عليه ، كان يتمنى أن يشاركها إهتماماتها ويتعايش معها . . أراد عمر أن يثبت لسلمى أنه بالفعل يحبها ويتمنى القرب منها ، فصارحها برغبته فى الإرتباط بها ، فهو لم يعد يستطيع الإستغناء عنها ، وافقت على الإرتباط وطلبت منه الإنتظار لستة أشهر ، حتى يعود والدها فى أجازته السنوية من العمل فى إحدى الدول العربية ، فرح عمر فرحاً شديداً لموافقتها وقرر الإنتظار . . كان عمر ينتظر من سلمى أن تقترب منه أكثر وأكثر ، وأن تهتم به أكثر وأكثر ، بعد أن صارحها برغبته فى التقدم لخطبتها ، إلا أن الأمر لم يتغير فيه شئ ، ظلت سلمى كما هى ، وظل عمر يعدو ويعدو وراءها هنا وهناك أملاً فى اللحاق بها والقرب منها . .

صارحها بأن ما تظهره من عدم إهتمامها به ، وعدم حرصها على القرب منه مثل حرصه تماماً ، هو أمر له توابعه وآثاره السيئة على علاقتهما ، وأنه ما إعتاد ذلك قط ، إنه إعتاد أن يكون دائماً فى أول الصفوف ممن يحبونه ويحبهم ويهتمون لأمره ويهتم لأمرهم ، وما إعتاد قط على أن يتجاهله أحد ، أو لا يهتم به ، وما رضى لنفسه قط أن يكون فى آخر الصفوف . . أما من يبتعدون عنه ولا يهتمون لأمره ، فلا يأبه بهم قط ، ولا يهتم لأمرهم قط . . صارحها بكل ذلك ، وأبدى لها عدم إرتياحه لإنشغالها الدائم عنه ، وهو الذى ليس فى عقله وفكره سواها ، فهى توأم عقله وفكره ، أكد لها على حبه وسعادته فى القرب منها ، وكان كلما تحدث إليها قال لها " لا تبتعدى عنى وكونى قريبة منى يا سلمى " . . ولكنها لم تكن تأبه بما يقول ، ولم تعمل بنصيحته بألا تبتعد عنه ، ظناً منها أن حبه لها سوف يمنعه عن فعل أى شئ وكل شئ ، فهو قد أمسى لا يطيق لها بُعداً . . وبمرورالأيام ، شعر عمر بأنه لم يعد له مكان فى حياة سلمى المشغولة دائماً ، وأنه حتى ولو إرتبط بها فلن تضعه فى أول الصفوف ، بل سوف تضعه فى آخرها ، لقد إعتادت على ذلك ، لم تستطع سلمى أن تعطه الإحساس بذاته وكيانه معها ، على الرغم من حبها الشديد له ، شعر بأنه معها لن يكون ذلك الرجل الذى تجعله محوراً لحياتها ، فحياتها مفتوحة على مصراعيها لكل الناس وهو منهم ، وهو لا يريد أن يكون من الناس ، ولكنه يريد أن يكون أعز الناس ، وأغلى الناس ، وأول الناس . .

يوماً بعد يوم . . صار البُعاد هو السمة الغالبة على علاقتهما، كانت الأيام تمر ولا يُحد ث كلاهما الآخر ، ولا يسمع كلاهما صوت الآخر ، ولا يرى كلاهما وجه الآخر ، أحبها عمر وتعلق بها كثيراً ، ولكنها أخرجته من حياتها رغماً عنه ورغماً عنها . . لم تعرفه جيداً ، ولم تفهمه جيداً ، ولم تهتم به جيداً ، حسبته مثل كل الناس ، وما هومثل كل الناس ، إهتمت بنفسها فى المقام الأول وتركته وحيداً . . إبتعدت عنه رويداً رويداً حتى صار لقاؤهما صدفة . . لم تكن تدرك أن عمر ليس من ذلك النوع من الرجال الذى لا يقبل ألا يهتم به أحد . . ولم تكن تدرك أنها بإبتعادها عنه ، إنما تقطع الحبل السرى الذى يربطهما . . ولم تكن تدرك أنها بذلك تفقده . . وا أسفاه . . لقد خسرته بعد أن كان كلاً منهما حُلماً للآخر يراوده فى منامه ، وأملاً لا يفارقه فى نهاره ، وقد ضاع الحلم وتبدد الأمل . . .                                                                                                                               
                                                                             وإلى مقال آخر إن شاء الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق