ولم تكن
تدرك . . . . أنها بذلك تفقده ! !
-------------------------------------
كان عمر
أصغر أشقائه عُمراً ، فقد كان هو الولد الوحيد بين أربع فتيات ، كن جميعهن أكبر
منه ، وقد توفى أبوه وهو فى سن الخامسة وتركه صغيراً ، كانت أمه – رحمها الله - ربة منزل ، وكانت أماً عطوفة وحنونة كسائر
الأمهات ، أدركت بعد موت أبيه أنه قد أصبح يتيم الأب ، فأرادت أن تعوضه عن ذلك ،
وأعطته كل إهتمامها وحنانها ورعايتها . . وكان عمر طفلاً هادئ الطباع ، ولم يكن
مثل باقى أقرانه يهوى اللعب كثيراً أو الخروج من البيت ، إلا مع إحدى شقيقاته أو
أمه ، حتى عندما إلتحق بالمدرسة الإبتدائية التى كانت قريبة من بيته ، كان يروح
ويغدو فى هدوء وسكينة ، ولم يكن مُثيراً للمشكلات أو الأزمات مع زملائه أو أقرانه
، فكان يُحسن إختيار أصدقائه الذين يقترب منهم ويسمح لهم بالإقتراب منه ، وإستمر
عمر على هذا النهج وتلك الخصال إلى أن أنهى تعليمه الجامعى ، فكان يميل إلى الهدوء
والتفكير والتأمل والتحليل ، وإنحصرت هواياته طوال سنوات عمره فى القراءة ولعب
الشطرنج وممارسة الرياضة ومشاهدة الأفلام التاريخية والأفلام الدرامية الهادفة ،
فلم يكن يهوى أفلام الحركة أو العنف الشديد .
هكذا نشأ
عمر . . وسط جو من الهدوء والإستقرار النفسى والعائلى ، وزخم من الحنان والعطف
والرعاية ، كانت أمه دائماً تشعره بأنه الإبن الأول والأخير فى حياتها ، وكانت
حريصة على إرضائه بشتى السُبل فى حدود العقل والحكمة . . كبر عمر وكبرت معه كل
طباعه وخصاله التى تربى عليها ، فكان حريصاً كل الحرص على أن يهتم بمن يحبهم
ويحبونه إهتماماً من نوع خاص ، وينتظر أن يبادلونه هذا الحب وذلك الإهتمام على ذات
المستوى ، كان يدرك تماماً أن الحياة بذل
وعطاء قبل أن تكون أخذاً ، ولم يكن يرضى بأن يكون إهتمام الآخرين به أقل من
إهتمامه بهم ، نما معه الإباء وعزة النفس ، وكان حريصاً دائماً على إحترام الآخرين
فى كل أقواله وأفعاله ، لذلك كان محبوباً مُهاباً مُحترماً ممن تعاملوا معه أو
إقتربوا منه ، ولم يكن يرضى لنفسه أن يضعها موضعاً لا يليق بها ، وحتى بعد أن تخرج
من الجامعة وعمل فى مجال القانون ، كانت تلك هى ضوابط علاقته بزملائه وأصدقائه فى
العمل .
وذات يوم
من الأيام ، أثناء الإنتخابات وأمام إحدى اللجان الإنتخابية ، ولدى خروجه من
اللجنة وإدلائه بصوته ، إقتربت منه فتاة فى منتصف العشرينات من العمر ، تبدو عليها
علامات الحيوية والنشاط والجدية ، تضع بطاقة تعريف على صدرها ، وألقت عليه التحية
قائلة : إسمى سلمى إحدى عضوات جمعية تنمية المجتمع التابعة لهذا الحى ، ومسئولة عن
مراقبة عملية الإنتخاب ومدى إنتظامها ، وسألته عن رأيه فى سير العملية الإنتخابية
، فأبدى الرأى بكل موضوعية وحياد ، فقد كان عمر يؤمن دائماً أن تصحيح أى مسار يبدأ
من مواجة المشكلات بكل موضوعية وحياد ، وإعطاء كل أمر قدره ، أبدى عمر رأيه إلى
سلمى ثم حياها وإنصرف . . . ولكنه أحس ساعتها بأن شيئاً ما فى هذه الفتاة قد شد
إنتباهه ، فعاد إليها مرة أخرى ليُبدى رغبته فى المشاركة معها فى نشاط تلك الجمعية
، أعطته رقم هاتفها المحمول ، وطلبت منه الإتصال بها بعد يومين ، فحياها وإنصرف.
ولكن . .
شيئاً ما ظل عالقاً بذهن عمر ، حتى بعد أن غادرها ، وظل مشغولاً بها بقية اليوم ،
أحس عمر أن شيئاً ما قد ربط بينهما ، ما هو ؟ لا يدرى ! ! ولكنه صار مشدوداً إليها
، وظل يتعجل مرور اليومين كى يتصل بها ، وبالفعل هاتفها بعد يومين ، لتحدثه وتطلب
منه مقابلتها بمقر الجمعية بعد ساعتين ، كان صوتها ساحراً له أثناء مكالمته معها ،
هكذا شعر عمر . .
وبعد
ساعتين كان عمر فى مقر الجمعية ، فوجد سلمى فى إنتظاره ، إنتحت به جانباً وجلسا
لتحدثه عن طبيعة نشاط الجمعية وشروط الإنضمام لعضويتها ، بعد أن طلبت له كوباً من
الشاى ، إستغرق حديثهما قرابة الساعة . . لم يكن عمر بطبيعته يميل إلى ممارسة هذا
النوع من النشاط الإجتماعى ، الذى يتطلب كثرة الحركة والنشاط والتواجد المستمر وسط
الناس فى الشارع والإلتحام بهم لحل مشكلاتهم ، ولكنه وجدها فرصة سانحة للقرب من
سلمى .
تعددت
اللقاءات بين عمر وسلمى ، داخل مقر الجمعية وخارجها ، إقترب كلاهما من الآخر
كثيراً ، وأبدى كل منهما للآخر إرتياحه معه ، فقد كان عمر فى منتصف الثلاثينات من
العمر ، هادئ الطباع ، يتسم بالعقل والرزانة وسعة الأفق ، وكان مُثقفاً ذا معرفة
واسعة فى مجالات عديدة ، وكانت سلمى فى منتصف العشرينات ، نشيطة ومتحركة وجادة ،
تهوى التعامل مع الناس بحرية عاقلة ومنضبطة ، وكانت لها صفحة على موقع التواصل
الإجتماعى الفيسبوك ، تتواصل من خلالها مع الآخرين ، كل هذ أعجب وأدهش ولاقى
إستحسان عمر فى سلمى . . . . ولكن ! !
بمرور
الوقت شعر عمر أنه يزداد تعلقاً بسلمى يوماً بعد يوم ، ويهوى الحديث معها لساعات
وساعات ، وأحست سلمى بإرتباطها الشديد بعمر ، ولكنها بحكم إهتماماتها ونشاطاتها
المستمرة والمتواصلة ، لم تستطع أن توفر له ذلك القدر من التفرغ والإهتمام والقرب الذى
كانت ترنو إليه نفسه ، كانت تنشغل عنه كثيراً ، حاول التواصل معها بشتى الطرق ،
حتى أنه صار مهتماً بالدخول إلى صفحتها على الفيسبوك ، ليقرأ ما تكتبه ويعلق عليه
، كان يتمنى أن يشاركها إهتماماتها ويتعايش معها . . أراد عمر أن يثبت لسلمى أنه
بالفعل يحبها ويتمنى القرب منها ، فصارحها برغبته فى الإرتباط بها ، فهو لم يعد
يستطيع الإستغناء عنها ، وافقت على الإرتباط وطلبت منه الإنتظار لستة أشهر ، حتى
يعود والدها فى أجازته السنوية من العمل فى إحدى الدول العربية ، فرح عمر فرحاً
شديداً لموافقتها وقرر الإنتظار . . كان عمر ينتظر من سلمى أن تقترب منه أكثر
وأكثر ، وأن تهتم به أكثر وأكثر ، بعد أن صارحها برغبته فى التقدم لخطبتها ، إلا
أن الأمر لم يتغير فيه شئ ، ظلت سلمى كما هى ، وظل عمر يعدو ويعدو وراءها هنا
وهناك أملاً فى اللحاق بها والقرب منها . .
صارحها بأن
ما تظهره من عدم إهتمامها به ، وعدم حرصها على القرب منه مثل حرصه تماماً ، هو أمر
له توابعه وآثاره السيئة على علاقتهما ، وأنه ما إعتاد ذلك قط ، إنه إعتاد أن يكون
دائماً فى أول الصفوف ممن يحبونه ويحبهم ويهتمون لأمره ويهتم لأمرهم ، وما إعتاد
قط على أن يتجاهله أحد ، أو لا يهتم به ، وما رضى لنفسه قط أن يكون فى آخر الصفوف
. . أما من يبتعدون عنه ولا يهتمون لأمره ، فلا يأبه بهم قط ، ولا يهتم لأمرهم قط
. . صارحها بكل ذلك ، وأبدى لها عدم إرتياحه لإنشغالها الدائم عنه ، وهو الذى ليس
فى عقله وفكره سواها ، فهى توأم عقله وفكره ، أكد لها على حبه وسعادته فى
القرب منها ، وكان كلما تحدث إليها قال لها " لا تبتعدى عنى وكونى
قريبة منى يا سلمى " . . ولكنها لم تكن تأبه بما يقول ، ولم تعمل بنصيحته
بألا تبتعد عنه ، ظناً منها أن حبه لها سوف يمنعه عن فعل أى شئ وكل شئ ، فهو قد
أمسى لا يطيق لها بُعداً . . وبمرورالأيام ، شعر عمر بأنه لم يعد له مكان فى حياة
سلمى المشغولة دائماً ، وأنه حتى ولو إرتبط بها فلن تضعه فى أول الصفوف ، بل سوف
تضعه فى آخرها ، لقد إعتادت على ذلك ، لم تستطع سلمى أن تعطه الإحساس بذاته وكيانه
معها ، على الرغم من حبها الشديد له ، شعر بأنه معها لن يكون ذلك الرجل الذى تجعله
محوراً لحياتها ، فحياتها مفتوحة على مصراعيها لكل الناس وهو منهم ، وهو لا يريد
أن يكون من الناس ، ولكنه يريد أن يكون أعز الناس ، وأغلى الناس ، وأول الناس . .
يوماً بعد
يوم . . صار البُعاد هو السمة الغالبة على علاقتهما، كانت الأيام تمر ولا يُحد ث
كلاهما الآخر ، ولا يسمع كلاهما صوت الآخر ، ولا يرى كلاهما وجه الآخر ، أحبها عمر
وتعلق بها كثيراً ، ولكنها أخرجته من حياتها رغماً عنه ورغماً عنها . . لم تعرفه
جيداً ، ولم تفهمه جيداً ، ولم تهتم به جيداً ، حسبته مثل كل الناس ، وما هومثل كل
الناس ، إهتمت بنفسها فى المقام الأول وتركته وحيداً . . إبتعدت عنه رويداً رويداً
حتى صار لقاؤهما صدفة . . لم تكن تدرك أن عمر ليس من ذلك النوع من الرجال الذى لا
يقبل ألا يهتم به أحد . . ولم تكن تدرك أنها بإبتعادها عنه ، إنما تقطع الحبل
السرى الذى يربطهما . . ولم تكن تدرك أنها بذلك تفقده . . وا أسفاه . . لقد خسرته
بعد أن كان كلاً منهما حُلماً للآخر يراوده فى منامه ، وأملاً لا يفارقه فى نهاره
، وقد ضاع الحلم وتبدد الأمل . . .
وإلى
مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق