وجاءت .
. . . . . لتقول وداعاً ! !
--------------------------------
جلس حسام
إلى مكتبه فى قسم الأرشيف ، بمديرية التربية والتعليم بالمنصورة . . إنه صباح أول
يوم عمل بعد أجازة عيد الفطر ، وكعادة الموظف المصرى يعود إلى عمله بعد الأجازة
متراخياً ، لا يبتغى أداء أى عمل . . ظل حسام يتنقل بين المكاتب المختلفة ، إلى أن
إنقضت ساعة كاملة من وصوله ، ثم جلس إلى مكتبه ليرى ما لديه من أعمال متراكمة من
قبل أجازة العيد ، وبدأ يقلب فى أوراقه المبعثرة على المكتب أمامه . . وبعد مرور
حوالى نصف ساعة ، رن فجأة ها تفه المحمول
، فإلتقطه بسرعة ليرى من المتصل ، ووجدها فرصة لإضاعة بعض الوقت بالحديث فى
الهاتف ، نظرإلى الهاتف فوجد إسمها على
الشاشة ، إنها فداء التى تتصل به ، أخذته الدهشة وتساءل : لماذا تتصل بى فجأة هكذا
فى العمل ؟ إن موعد لقائنا مساء اليوم ، ربما تتصل لتعتذر ؟ أفا ق سريعاً ورد على
الهاتف : صباح الخير يا فداء ، ردت : صباح الخير ، بادرها بالسؤال : خيراً ماذا
حدث ؟ فأجابته :أنا أتصل بك كى أؤكد موعد لقائنا فى السادسة مساء اليوم ، فرد حسام
مؤكداً : نعم نعم أنا أتذكره وفى إشتياق لرؤياكِ . . لم يكمل حسام كلماته وسمع صوت
فداء تنهى المكالمة بقولها : لا تنسى لا تنسى . .
أغلق حسام
هاتفه ووضعه على المكتب ، وشعر بإحساس غريب ينتابه ، وبدأ يتساءل : تُرى ما الذى
دفعها للإتصال مبكراً هكذا كى تؤكد موعد لقائنا اليوم ؟ إنها لم تفعلها قط ، إن صوتها به شئ غريب لم أعهده من قبل ،
ولستُ أدرى ما بها ، تُرى هل دفعها الشوق لأن تتصل بى ؟ مضت خمسة أيام متتالية منذ
آخر لقاء بيننا قبل أجازة العيد ، ولكن صوتها لا يوحى بذلك ، لقد أنهت المكالمة
بسرعة حتى قبل أن أنهى كلماتى . . تساؤلات وتساؤلات أخذت تحوم حول رأسه ، ولا يجد
لها جواباً ، أطلق حسام لخياله الحبل على غاربه ،وكأنها فرصة واتته كى يتهرب من
الملفات المتراكمة على مكتبه ، ساعده على ذلك الهدوء فى صالة الأرشيف ، فكل زملائه
فى القسم لم يحضر منهم أحد اليوم ، كان هو الوحيد الذى حضر ، فهو الوحيد بين
زملائه غير المتزوج ، وليس لديه ما يشغله عن العمل ، بلغ من العمر ثلاثة وثلاثون
عاماً ، وما زال يحاول الصمود فى الحياة ، والوقوف على قدميه ، ليستطيع الزواج من
الإنسانة الوحيدة التى أحبها ، إنها فداء التى حادثته عبر الهاتف منذ قليل . .
إلتقى بها
منذ عامين ، جاءت إلى مديرية التربية والتعليم بالمنصورة ، كى تنهى إجراءات صرف
معاش والدها الذى توفى آنذاك ، رافقها وعاونها فى تسليم المستندات المطلوبة ، ووعدها
بمتابعة الإجراءات بدلاً منها ، فشكرته على مساعد ته ، وأعطته رقم هاتفها المحمول
ليتواصل معها . . ومنذ هذه اللحظة بدأت إتصالتهما ، وتبادلا الحديث عدة مرات ، إلى
أن أباح لها بمكنونات صدره ، وكشفت له عن أعجابها الشديد به ، وبمواقفه التى تتسم
بالرجولة والشهامة تجاهها ، تبادلا الكلمات الرقيقة ، وتعددت اللقاءات ، وتعاهدا
على الزواج بعد أن أوضح لها حسام كل ظروفه ، فلم تبدى إعتراضأ ، ووعدته بأن تنتظره
سنوات حتى يتهيأ للزواج . . فرح حسام بفداء وفرحت به ، مال إليها ومالت إليه ،
أحبها وأحبته ، وكان حبهما يزداد كلما مرت الأيام ، كل منهما صار يعرف ما بداخل
الآخر من نظرات عينيه . آخر مرة إلتقى بها كانت قبل أجازة العيد ، تبادلا التهانى
والهدايا ،خرجت الكلمات من شفاههما مغلفة بالحب والغرام ، ودعها قبل العيد بكلمة
لا إله إلا الله ، وودعته هى بمحمد رسول الله ، بعد أن إتفقا على اللقاء بعد
إنتهاء العيد . . واليوم إتصلت به فجأة ، على غير عادتها ، وصوتها يُنبئ بأن شيئاً
ما وراء هذه المكالمة .
إنتهى حسام
من عمله ، وذهب إلى البيت ، ظل القلق ينتابه حتى حان وقت الخروج لملاقاتها ، ذهب
قبل الموعد المحدد بنصف ساعة ، فهو لم يعتاد أن يجعلها تنتظره وحدها ، كان حريصاً
جداً على مراعاة مشاعرها . . وفى تمام
الساعة السادسة حضرت فداء ، كان لقاؤهما دائماً فى أحد الأماكن العامة على شاطئ
البحر بمدينة المنصورة ، وسط الأضواء المنعكسة على صفحة مياه البحر ، حضرت فداء
وقام لها حسام يستقبلها ويُهيئ لها مقعدها حتى جلست ، نظر لوجهها فوجد ملامح لم
يشهدها من قبل ، ألقت عليه السلام دون أن تذكرإسمه ، لم تبتسم له ولم تبدى لهفة أو
إشتياقاً ، أحس بها جامدة وباردة لأول مرة ، نظر إليها حسام نظرة حانية ، يحاول أن
يستكشف ما ألم بحبيبته . . أشاحت بوجهها عنه نحو صفحة الماء ، وطال الصمت بينهما
حتى بادرها هو بالسؤال :
سألها : ما
بكِ يا فداء ؟ ماذا حدث ؟
قالت : لا
شئ بى . . عادى !
قال : لا .
. هناك أمر غير عادى ، إتصلتِ بى على غير عادتك صباح اليوم ، كى تؤكدى على موعد
لقائنا ، وأنتِ تعلمين تماماً أننى لا أنساه أبداً ، وأحسست من نبرات صوتك بشئ غير
عادى .
قالت ( وهى تستجمع قواها ) :
لقد جاءنى عريس خلال أيام العيد .
قال حسام
متسائلاً : وما الجديد فى ذلك ؟ لقد سبقه آخرون غيره وكنتِ ترفضين ، ماذا حدث ؟
قالت : لا
هناك جديد . . هذا العريس مختلف عمن سبقوه ، إنه جاهز ، معه كل شئ ولديه كل شئ ،
أما الآخرون فلم يكونوا جاهزين .
بادرها
حسام بالسؤال : وهل كنتِ ترفضينهم لأنهم غير جاهزين ؟ أم لأنكِ تحبيننى ؟
سكتت فداء
ولم ترد ، عدم ردها أحزنه وآلمه كثيراً ، إلا أنه أراد ألا يقطع الحديث بينهما ،
فسألها :
ومن هو ؟
قالت : إنه
شقيق إحدى صديقاتى ، يعمل طبيباً فى دولة الإمارات العربية منذ عشر سنوات ، وهو
حالياً فى أجازة ، وتقدم للزواج منى أثناء العيد ، ويرغب فى إتمام الزواج فى خلال
شهر ليعود إلى الإمارات ، وأهلى جميعاً راضون عنه ، وأنا . . . . . . . . وسكتت ولم تكمل ! !
قال حسام :
إذن . . هو جاهز فعلاً .
قالت : نعم . . لديه شقة فاخرة هناك ، ولديه سيارة
حديثة ، ويتقاضى راتباً كبيراً .
قال حسام :
وأنا يا فداء ؟
قالت على
الفور : وأنا ؟
صدمته سرعة
إجابتها ، ونبرة صوتها ، وهى تنطق بكلمة أنا ، أحس فيها بالشعور بالأنانية ، ولكنه
تمالك نفسه وأكمل الحديث . .
قال : إنها
أول مرة أسمعك تنطقين بهذه الكلمة يا فداء .
قالت ( وهى
ترجع بظهرها إلى الوراء ) : أنت أنت ، وأنا أنا ، إننا شخصان مختلفان ، لكل منا
مصالحه ، و لكل منا شخصيته ، وهذه حقيقة لا بد أن تدركها جيداً ، كى تعيش فى هذه
الحياة .
قال : لقد
تعاهدنا على الزواج ، و وعد تنى أن تنتظرى معى حتى أستعد وأتقدم للزواج منكِ .
قالت :
إنتظرتك عامين ، ولكنك تحتاج إلى وقت أطول ، وأنا لن أستطيع الإنتظار أكثرمن ذلك .
قال متهكما
: الواضح أنكِ لم تنتظرينى ، إنكِ كنت تنتظرى العريس المناسب ، وها هو قد حضر
قالت
معترضة : من حقى ألا أظلم نفسى من أجلك .
قال راجياً
: وأنا يا فداء ، ألست أحبك ؟ ألست أريدك زوجة لى ؟
ظل حسام
يتحد ث ويتحد ث ويتحد ث ، وفداء بدا عليها وكأنها لا تسمعه ، فقد صَمت آذانها عن
حديثه ، ولم تعد تنصت إليه . . نظرت فى ساعتها وقالت : لقد تأخرت ، لا بد أن أعود
للبيت . . فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها مظروفاً متوسط الحجم ، ووضعته أمام حسام ،
فسألها على الفور : ما هذا المظروف ؟ وما الذى بداخله ؟
قالت :
إنها خطاباتك التى أرسلتها إلىّ خلال العامين الماضيين ، خذها ، لم أعد فى حاجة
إليها !
فقال حسام
( وهو يهز رأسه ) : وخطاباتك التى لدى ، ألستِ تريدينها ؟ ألستِ فى حاجة إليها ؟
قالت ( وهى
تبدى عدم إهتمام ) : إن أردت الإحتفاظ بها ليس عندى مانع ، وإذا لم تريدها مزقها
أو إحرقها ، أنت حر فيها ، ولكننى لا أريدها كى لا تذكرنى بك !
قال : إنها
خطاباتك ، كلماتك ، أشعارك وقصائدك ، أيامك ولياليكِ ، إنها ذكرياتك !
قالت ( وهى
تستعد للوقوف ) : لا . . بل هى ذكرياتك أنت ، حياتك أنت ، إفعل بها ما تشاء .
ونهضت
واقفة فى ثبات ، وبكل قوة وصلابة وعدم إكتراث
، قالت له : وداعاً . . .
إنها كلمة
واحدة نطق بها لسانها ، ثم إستدارت لتمضى فى طريقها ، ولم تنظر خلفها قط حتى إختفت عن ناظريه ، وهو جالس فى مكانه لا
يتحرك ، تتابعها عيناه ، ولا يكاد يصدق ما حدث ، إنها لم تنتظره حتى يرد لها
الوداع ، إنها لم تنطق بإسمه قط طوال حديثها
معه . .
أيقن حسام
ساعتها . . أن فداء قد باعت حبهما وقبضت الثمن . . وأنها ما جاءت اليوم لتعبر له
عن حبها وإشتياقها إليه بعد فراق عدة أيام . . وأنها ما جاءت لتبقى على العهد
والوعد . . وأنها ما جاءت لتؤكد له أنها سوف تكمل معه المشوار . . إنما جاءت لتنهى
ما بينهما . . وجاءت لتقول له كلمة واحدة . . . . . . . وداعاً ثم رحلت ! !
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق