و عاش فى
القصر . . . . . . وحيد اً ! !
--------------------------------------
غافلها . .
ودخل إلى قلبها على حين غِرة . . مَرق إلى القصر بدون أن تدرى ، وفرح لمجيئه حراس
القصر فتركوه ورحلوا , فرحوا بأن القصر – أخيراً – قد أصبح فيه سيده ، وما عادوا
يشعرون بأن لصاحبة القصر إليهم حاجة . . دخل إلى بستان القصر ، ورحبت به كل الورود
والزهور والرياحين ،وشدت له الطيور ، وزقزقت له العصافير . . سكن القصر ولم يكن
يدرك أن لصاحبته رأى آخر ، إنها أقسمت ألا تدعه يسكن قلبها وقصرها بعد اليوم ، بعد
أن خانها الجميع من حولها وغدروا بها ، حتى حراسها تركوها ورحلوا ، وحتى قلمها
رفيق السنين ، فرح لما علم أنها ما مزقت الرسالة ، وأنها ما ألقت بها فى صندوق
القمامة ، وإنما وضعتها بيدها الجميلة فى صندوق ا لبريد ، ليتسلمها ساكن القصر ويقرأ ما بها ، ويعلم أنها
ما أحبت قط سواه ، وما مالت نفسها إلا إلى هواه ، غلبتها مشاعرها نحوه ، وهزمها
حبها إليه ، وغاب عنها عقلها لحظة أن إمتدت يدها لتضع رسالتها فى صندوق البريد ،
حتى عيناها ، أغمضت الجفون ، وما أبصرت الصندوق .
ولكنها
الآن أفاقت لنفسها ، وذهبت عنها الغفلة ، وإستردت وعيها ، وأقسمت بأنها مهما كلفها
الأمر ، سوف تخرجه من القصر ، ولن تدعه يستولى على قلبها وقصرها . . إنها ليست فى
حاجة إليه ، إنها هكذا مرتاحة البال ، تنام الليل وتعيش النهار ، ما لها والحب
والغرام والهيام ، سيرة العاشقين يرويها التاريخ على مر الزمان ، كلها فراق وحنين
وألم وعذاب ، قالت لنفسها : دعيه وحيداً فى القصر ، سجيناً بين جدرانه يُحدِث نفسه
، حتى يضيق به القصر ويصيبه الجنون ، فيلملم بقاياه ويرحل . .
ظل ساكن
القصر يراوده الأمل بأنها يوماً سوف تأتيه ، سوف تشتاق إليه ، سوف تدخل قصرها ،
لتعيش معه فيه ، وينعما معاً بحياة جميلة وسعيدة . . إنه كان يُمَنى نفسه ، ولكن .
. هل كل ما يتمناه المرء يدركه ؟ ؟ قطعاً
. . لا . . ولكن هكذا حال المحبين ، لا
يصيبهم اليأس أبداً .
مرت الأيام
تلو الأيام . . وساكن القصر يستيقظ كل صباح ، مع إشراقة شمس يوم جديد ، فيفتح
النوافذ ليدخل الهواء والنسيم ، ويتسلل الضياء إلى باحة القصر وكل جنباته ، ثم
يمضى إلى حيث بستان القصر ، يروح ويغدو فيه ، تتمايل وتتبختر من حوله الورود
والأزهار ، والفروع والأغصان ، وكأنها تغنى معه أنشودة الصباح ، وسط شدو الطيور
وزقزقة العصافير . . وتمضى الأيام وصاحبة القصر ما جاءت إليه ، صاركل يوم يشبه
سابقه فى أعين ساكن القصر . . . وذات صباح ، خرج ساكن القصر إلى البستان ، أحس أن
الحال تبدل إلى حال ، وقعت عيناه على الورود والأزهار والفروع والأغصان ، وجدها ما
عادت تتبختر ولا تتمايل ، تساءل : ماذا ألم بها ؟ لقد كانت تتمايل طرباً عندما ترانى
، ما لها ساكنة هكذا ؟ وأين شدو الطيور وزقزقة العصافير ؟ أين ذهبت الطيور وراحت
العصافير ؟ لقد كانت تملأ السماء تحليقاً بجناحيها ، وتملأ البستان شدواً وغناءً ،
ما عادت الطيور ولا العصافير تقترب من القصر ، إنه يراها بعيداً فى الأفق البعيد ،
ولكنها ما عادت تقترب من القصر ، تُرى ماذا حدث ؟ وأى شئ منعها من المجئ إلى القصر
؟ وأين ذهب النسيم العليل هو الآخر ؟ إنه ما عاد يملأ باحة القصر عِطراً ؟
مضى ساكن
القصر إلى داخله ، والألم والحزن يعتصران قلبه وكيانه ، والحيرة تكاد تفتك بعقله ،
كلما وقعت عيناه على شئ فى القصر ، وجده قد تغير وتبدل ، ما عاد شيئاً كما كان
بالأمس . . جلس إلى جوار إحدى نوافذ القصر ، يُحدِث نفسه وتحدثه ، يتعجب ويُبدى
دهشته لما حدث ، ظل يُفكر ويُفكر ويُفكر . .
وبينما هو على هذا الحال ، ينظر من النافذة ويتأمل السماء ، رأى عصفوراً
قادماً فى الأفق من بعيد ، قاصداً ناحية القصر ، تعجب لأمر ذلك العصفور ، الذى حلق
منفرداً تاركاً بقية العصافير تجاه القصر ، إقترب العصفور وظل يحوم حول النافذة
التى يجلس بجوارها ساكن القصر ، راح العصفور وجاء ، ثم راح وجاء ، نظر إليه ساكن
القصر وتعجب من أمره . . إقترب العصفور من النافذة ، ثم وقف على حافتها وطوى
جناحيه ، يتطلع إلى ساكن القصر ، وكأنه يرثى لحاله ، ويشفق عليه مما هو فيه . .
ودار بينهما حديثاً :
سأله ساكن
القصر : ماذا أتى بك أيها العصفور إلى هنا ؟ أجبنى ! !
رد العصفور
قائلاً : وماذا أتى بك أنت إلى هنا ، أيها الساكن الجديد ؟
قال ساكن
القصر : أردت أن أكون بجوارها ، أن أدخل قلبها ، وأسكن فى قصرها . . إنى أحبها !
قال
العصفور : ولكنها لا تريدك فى قلبها ، إنها لم تدع أحداً يسكن قصرها من قبل ،
لماذا دخلت عنوة ؟
قال الساكن
: أردت أن أعيش الحياة معها ، فى قربها ، أريد قلبها الطيب وقصرها الجميل
قال
العصفور : ولكنها لا تريد أن تعيش الحياة مع أحد . . إنها تريد أن تحيا وحيدة ،
دعها وشأنها
سأل الساكن
: وأين بقيتكم من الطيور والعصافير ؟
قال
العصفور : لقد رحلنا جميعاً إلى حال سبيلنا ، ولم يبق إلا أنت ، لم نعد نحوم حول
القصر ، بعد أن أيقنا أنها لا تريد نا ، تركنا لها قصرها وبستانها ، وبحثنا عن قصر
آخر وبستان آخر ، الدنيا تملؤها القصور وتزدحم بها البساتين ، مالنا وقصرها
وبستانها ! !
سأل الساكن
: وهل كنتم هنا قبل أن أدخل القصر ؟
قال
العصفور : لا . . لم يكن هنا أحد سوى حراس القصر ، لقد جئنا معك ، أغريتنا أنت
بالحياة والشدو والغناء ، وأوهمنا نحن أنفسنا بأن لنا حياة فى ذلك القصر . . قبل
مجيئك لم يكن فى القصر ما يُغرينا ، حراسه واجمون ، نوافذه مغلقة ، أبوابه موصدة ،
وروده وزهوره ورياحينه ذابلة ، فروعه وأغصانه جامدة لا تتمايل . . أنت أتيت فأتت
معك الحياة ، فجئنا إلى القصر لنحيا .
سأل الساكن
: وما الذى أتى بك مرة أخرى ؟
قال
العصفور : نشفق عليك ونرثى لحالك ، أرسلنى كبيرنا كى أنصحك بأن ترحل ، نحن أحببناك
ولكنها لم تحبك ، ولا ترغب فى قربك ، ولا تريد لك أن تدخل قلبها ولا أن تسكن قصرها
، أما نحن فلا نرضى لك أن تضيع أيامك ولياليك هنا وحدك ، نحن وأنتم لا نعيش إلا
مرة واحدة ، صحيح أعماركم أطول من أعمارنا ، ولكنها لنا جميعاً حياة مرة واحدة ،
فلا تضيعها على أمل لن يتحقق ، ورجاء لن تلبيه لك . . لقد أقسمت ألا تدعك تسكن
قصرها ، ولقد سمعناها جميعاً تقسم وتقسم وتقسم .
قال الساكن
: وماذا أفعل إذن ؟ قل لى ؟
قال
العصفور : أترك هذا القصر وإرحل فوراً ، إنه قصرها ، دعها تهدمه على رأسها ! !
قال الساكن
: ومن يا تُرى سوف يسكنه بعد أن أرحل منه ؟
قال
العصفور : لا أحد . . لا أحد . . إنها تريده خَرباَ ومظلماً ، تريده بلا روح ولا
حياة ، عاشت هكذا فيه لسنوات وسنوات ، مالك أنت وهذا القصر ؟ سوف يضيع عمرك فيه
ولن تجنى شيئاً سوى الهم والغم .
قال الساكن
: وهى . . هل أتركها وحيدة ، وأذهب بعيداً ؟
قال
العصفور ( ناصحاً ) : أنج بنفسك ، إنها لا حياة فيها ولا معها ، إنها كانت تمثل فى
نظرنا قبل مجيئك الجمود والموت ، كنا نحلق بعيداً عنها وعن قصرها ، ما آتينا إلى
هنا إلا معك ومن أجلك . . إننا نعشق الحياة مثلك ، ونعشق الشدو والغناء ، وهى بلا
حياة ولا شدو ولا غناء ، فرحلنا .
قال الساكن
: ولكنى أحبها ، وقلبى متعلق بها ، إنها توأم عقلى وفكرى ، أخشى أن يُصيبنى الجنون
إن بعدت عنها .
قال
العصفور ( راجياً ) إسمع نصيحتى ، إذهب بعيداً عنها وأحبب من شئت غيرها ، إنهن
كثيرات ، القلوب كثيرة والقصور عديدة ، لن تجد الحب معها ، وسوف تدمى قلبك بسببها
، إن ظللت بجوارها لن ينالك إلا التعاسة والشقاء ، وأنت نقى طيب القلب ، لا تعذب
نفسك ، ولا تلقى بها إلى التهلكة ، صدقنى إنها الهلاك والفناء ، لقد أحببناك ومن
أجل ذلك جئت إليك .
قال الساكن
: أتركنى وأرحل أيها العصفور الشقى ، إنك تريد أن تحرمنى منها وتبعدنى عنها ، إنكم
تكرهونها ، ومن أجل ذلك تتمنون لها التعاسة والشقاء ، طِر حالاً وأغرب عن وجهى ! !
قال
العصفور ( حانقاً ) : تباً لك من شخص غريب ، أأقطع كل هذه المسافات ، وآتيك برسالة
نُصح ونجاة وأنت لا تستجيب ؟ تباً لك ألف مرة . . إنك تسعى إلى الهلاك ، و لن تدرك
نصيحتى إلا بعد فوات الأوان ! !
وعندئذ . .
إستدار العصفور ، ورفرف بجناحيه إستعداداً للطيران ، وهو يردد ويقول : تباً له ،
إنه يسعى للهلاك ، ولن يدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان . . إنها لن تدعه يسكن
قصرها مهما كان . . وسوف تدمره إذا إقتضى الحال ، إنها شقية لا تبغى الحياة ، ولن
يناله منها إلا العذاب ! !
وعلى الفور
. . إمتدت يد ساكن القصر إلى النافذة فأغلقها ، ثم أغلق كل نوافذ القصر ، وأوصد
أبوابه عليه وهو بداخله ، كى لا يسمع صوت عصفور آخر يدعوه إلى الرحيل . . صحيح هى
ما جاءت لترحب به فى القصر . . وصحيح أن كل الطيور والعصافير والورود والرياحين
أدركت أنها لن تدعه يسكن القصر ، ولكنها أرسلت له رسالة تخبره فيها بحبها له ، و
تبوح له بمكنونات صدرها ، وتدعوه إلى أن يظل فى القصر . . إنه لا يدرك أنها ما
أرادت أن ترسل الرسالة ، ولا يدرك أن الرسالة ما كانت لتصل إليه لولا أنها أخطأت
صندوق القمامة ، ولا يُدرك الحديث الذى داربينها وبين قلمها ، ولا يدرك أن نصيحة
العصفور له بالرحيل عن القصر هى الصواب . . . عناده أودى به إلى الهلاك . . فقد
قرر أن يبقى فى القصر ، مهما طال الزمان ، لعلها إليه تميل ، أو يرق قلبها لحاله
فترنو إليه . . وإلى أن يحدث ذلك سيظل ساكن القصر فى القصر وحيداً ! !
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق