الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

التائه . . . . على مر الزمان ! !

بالأمس . . أرسلت إلىّ صديقة عزيزة ، وأكن لها كل إحترام وتقدير ، باكورة إنتاجها القصصى ، وذلك لإبداء الرأى فيها ، وبالفعل قرأتها أكثر من مرة ، . . وللحق أقول : أنها قصة رائعة ، وتحمل الكثير من جوانب الإبداع الأدبى ، ومن فرط إعجابى بالقصة ، بإعتبارها أول إنتاج أدبى لها . . فقد إرتأيت نشرها على صفحتى بإسمها ، إعترافاً منى بقيمة العمل ، وتشجيعاً لها على مواصلة العطاء والإبداع . . وكلى أمل فى أن تنال إعجاب قرائى الأعزاء ، بعد قراءتها والتعليق عليها بالرأى والتقييم . . وهاهى بين أيديكم:


التائه . . . . على مر الزمان  ! !     ( بقلم : عطر الوداد )
------------------------------
كان نادر شاباً حديث التخرج ، من إحدى الكليات النظرية بجامعة القاهرة ، وهو من أسرة متوسطة الحال ، مكونة من ولدين وبنتين وأب وأم ، وكان هو الإبن الأكبر لأبيه ، الذى سافر منذ عدة سنوات ، للعمل فى إحدى الدول العربية ، كى يوفر لأسرته متطلبات الحياة الكريمة ، من مسكن ومأكل وملبس ونفقات تعليمهم ورعايتهم والقيام على كافة شئونهم . . كان الأب قبل شفره يعمل موظفاً بسيطاً ، بإحدى المصالح الحكومية المصرية ، وكان يتقاضى راتباً ضعيفاً ، لا يكفى لمواجهة كافة أعباء الأسرة بأكملها ، فى ظل الإرتفاع المتزايد فى الأسعار والنفقات . . ومن أجل ذلك الهدف النبيل والمشروع ، قرر الأب عائل الأسرة ، السفر إلى إحدى البلدان العربية فى منطقة الخليج ، للعمل هناك ، من أجل تأمين نفقات أسرته ، وتأمين مستقبل أبنائه وبناته .

تخرج نادر من الجامعة ، وكان لزاماً عليه أن يبدأ أولى خطواته ، لشق طريقه فى الحياة . . ذلك الطريق شديد الصعوبة والوعورة ، الملئ بالعقبات والصعوبات ، فى ظل أزمة بطالة طاحنة ومزمنة بين صفوف الشباب ، من أقرانه وممن هم أكبر منه سناً . . فقد طالت البطالة عدة ملايين ممن هم فى سن الشباب ، الذين عجزت الحكومات المتتابعة عن إيجاد وظائف مناسبة لهم ، وفى ذات الوقت عجزت شركات القطاع الخاص عن إستيعاب أعداد كبيرة منهم . . تلك كانت هى المشكلة الأولى التى وجب على نادر مواجهتها ، عقب تخرجه من الجامعة . . ولكن . .

كان هناك أمر آخر . . لا يقل أهمية فى حياة نادر . . إنها نسمة . . تلك الفتاة الجميلة ، التى كانت زميلته فى الجامعة ، وتعرف إليها منذ أكثر من عامين ، أحبها وأحبته ، أنس إليها وألفته ، مالت إليه بقلبها وهواها قلبه . . على مدى أكثر من عامين كاملين ، ربطتهما علاقة حب وطيدة وقوية ، كانا يلتقيان كل يوم ، يحادثها وتحادثه ، يحاورها وتحاوره ، ويتبادلان الكلمات فى كل شئ ، حتى أحلامهما وآمالهما تقاسماها سوياً . . تشارك الإثنان العديد من المناسبات السعيدة ، وتواسيا فى العديد من المناسبات المؤلمة والحزينة . . كان كلاهما بالنسبة للآخر هو الملاذ والملجأ ، وهو الحضن الدفئ والحنان ، وهو الصبح والمساء والليل والنهار، ويوم أن أنهيا دراستهما معاً ، جددا الوعد والعهد على الحب والزواج .
وها هو نادر اليوم . . وبعد أن تخرج من الجامعة ، وبدأ يشق طريقه فى الحياة ، لم ينس حبيبته نسمة قط ، ولم ينس حلمهما وأملهما فى الحياة سوياً ومعاً . . ولكنها دائماً هى الأحلام الوردية الجميلة ، التى غالباً ما تنكسر وتتحطم على صخرة الحياة ، رغم أنف الحالمين والمحبين .

إنتظر نادر عودة أبيه من السفر ، فى أجازته السنوية ، كى يصارحه بما يحلم به ، ويلقى بين يديه أهم أمر يشغل باله وعقله ، ويحيط بقلبه فى صدره ، ويعصف بوجدانه وكل كيانه . . كان نادر يعد الأيام عداً ، ويحصى الليالى فى إنتظار عودة أبيه ، وكانت الأيام تمر بطيئة وثقيلة ، وكأنها تعانده ، أو هكذا خيل إليه . . ولكنها على أية حال قد مرت ، وعاد الأب من السفر ، ليقضى أجازته القصيرة فى بيته وبين أولاده . . إنها الغربة القاسية ، التى تحرم الأب من أولاده وأسرته وتحرمهم جميعاً منه ، ولكنها الحياة بكل متاعبها ومشقاتها . . لم يكن نادر يدرى ماذا يخبئ له القدر ، وماذا ستفعل به الأيام .

مرت أيام ثلاثة بعد عودة الأب ، وقرر نادر أن يتحدث إلى أبيه بشأن حبيبته نسمة . . وبالفعل . . إنتهز نادر فرصة وجود أبيه وحده بالبيت ، فى مساء اليوم الرابع ،وأخبره نادر بأنه يحب زميلته نسمة ، التى كانت معه بالجامعة ، وأنه يرغب جدياً فى التقدم لخطبتها ، وفاءً  بالعهد الذى قطعه على نفسه نحوها ، وأنه يخشى الإنتظار طويلاً ، فيتقدم آخر لخطبتها ، وبذلك يفقدها إلى الأبد .
إستمع إليه الأب وأنصت جيداً ، حتى إنتهى نادر من حديثه . . ثم فاجأه الأب برفض طلبه رفضاً قاطعاً ، متعللاً بأنه لا يؤمن بالحب ويرى أن الحب شئ والزواج شئ آخر ، وأن إبنه لا يزال فى أول مشوار حياته ، ومازال أمامه مشوار طويل كى يقف على قدمين ثابتتين ، ويقوى على مواجهة مسئوليات الزواج ، فضلاً عن إعتراض الأب على زواج إبنه الأكبر من إحدى بنات القاهرة ، والأسرة كلها من الصعيد . . لقد كان رد الأب قاطعاً وحاسماً وجازماً ، بدرجة تكفى لئلا يناقش نادر أباه ، أو يحاول إقناعه بوجهة نظره .
فى لحظات مرت سريعة ، ودقائق لم يشعر بها نادر ، إنهارت كل أحلامه وآماله ، فى الزواج من حبيبة قلبه نسمة ، ولم يكن أمامه سوى الإستسلام للأمر الواقع ، والرضا بقضاء الله وقدره ، الذى قضى عليه بالحرمان من الإنسانة الوحيدة ، التى أحبها وهواها .
لم تمر سوى أسابيع قليلة ، وكانت الأسرة قد دبرت أحوالها ، وسافر نادر برفقة أبيه للعمل بذات البلد العربى الذى يعمل به ، وإنقطعت صلة نادر بنسمة تماماً ، ولم يعد يعرف عن حياتها شيئاً ، ولم تعد هى تدرى شيئاً من أخباره .

إنقضت ثلاث سنوات متصلة . . لم تطأ قدما نادر خلالها أرض مصر ، ولم يفكر حتى فى قضاء أجازة ولو قصيرة بين أهله وأخوته , , كان يحاول جاهداً أن ينسى حبيبته ، أو يتناسى ما كان بينهما ، ورضى تماماً بما قسم له الله . . وبعد مرور السنوات الثلاث ، قرر نادر قضاء أجازة قصيرة مع أسرته . . خلال تلك الأجازة  أشار عليه أبوه بأن يخطب ويستعد للزواج ، وبالفعل إختارت له خالته إحدى طالباتها فى التعليم قبل الجامعى . . لم يعارض نادر رغبة والديه وباقى أفراد عائلته ، وأتم خطبة الفتاة التى إختاروها له ، ولكن سرعان ما ظهرت أطماع أهل الفتاة ، فحاولوا الحصول منه على مبالغ مالية لا مبرر لها ، فدب الخلاف ولم تدم الخطبة طويلاً ، حتى وقع فسخها . . ولم تنقض شهور قليلة ، حتى إختار له والداه عروس أخرى ، وتمت الخطبة إلا أنها لم تكن أفضل حالاً من سابقتها . . إنهالت عليه المطالب المالية المبالغ فيها ، ثم كان إعتراض أهل العروس على إقامة إبنتهما فى شقة فى بيت أهله ، بدعوى أنها شقة صغيرة ولا تليق بإبنتهم . . وحدث الخلاف الذى إنتهى بفسخ الخطوبة للمرة الثانية .

بعد فترة وجيزة فى البحث عن عروس ثالثة . . إستقر تفكير أسرة نادر ، على أن تكون العروس من داخل العائلة ، فهى التى سوف تصون الإبن وتحفظه ، وهى التى سوف تكون بالنسبة إليهم بمثابة الإبنة . . وبالفعل تم إختيار إحدى الفتيات القريبات للأسرة من الدرجة الأولى ، وتمت الخطبة سريعاً ، ثم كان الزواج والسفر إلى البلد العربى الذى يعمل فيه نادر ، وقد تم ذلك فى خلال فترة زمنية قياسية ، لدرجة أن العروسين لم يعطيا الوقت الكافى للتفكير والتدبر. . فقد رأى أهل نادر أن الفتاة صغيرة السن ، وعلى درجة من الجمال ، وذات صلة وقرابة من العائلة ، ولم يمانع نادر فى ذلك . . صحيح أنه قبل الزواج بالفتاة قريبته ، دون أن تكون بينهما مشاعر متبادلة ، ولكنه زواج على أية حال .
كانت حياة الإثنين جافة وخاوية من المشاعر والأحاسيس والعواطف ، وكان هو لا يزال بعيداً بخياله وروحه عن زوجته ومع حبيبته الأولى نسمة . . يوماً بعد يوم . . أصبح نادر يعطى معظم أوقاته مع أصدقائه ، بعيداً عن بيته وزوجته التى ضاقت ذرعاً بالحياة معه ، وإنتهى الأمر بوقوع الطلاق بينهما بناء على طلبها ، بعد أن إستمرت الحياة بينهما عدة سنوات لم ينجبا خلالها أولاداً .

وها هو نادر يعود من جديد . . إلى مفترق طرق فى حياته ، فاقداً الحبيبة والذات والنفس . . يقضى الليل والنهار والصبح والمساء ، وحيداً يبحث عن ذاته ونفسه كى يحيا حياته ، ولكن كل حلم قد فات ومات . . وها هو العمر ينقضى أمام عينيه ، والأيام تطويها الأيام ، والشهور تعقبها الشهور . . ومع مرورها تزداد الجراح غوراً ، وتعانى النفس ألماً وحزناً ، ويعم الإحساس ضياعاً ، ويضحى نادر غير قادر على النسيان . . ويصير به الحال تائهاً على مر الزمان .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق