عندما
يبكى الرجال . . . . . . ! ! ( بقلم : د
. وحيد الفخرانى )
------------------------------
قابلتنى
صدفة . . ذات مساء ، وأنا جالس وحدى فى أحد النوادى الإجتماعية ، وقد إنتحيت
جانباً فى ركن هادئ ، من أركان النادى ، بعيداً عن صخب الكبار ولعب الصغار . . جاء
مقعدى قريباً من مقعدها ، على بعد خطوات ، حيث جلست هى أيضاً بمفردها ، وقد أمسكت
بيدها إحدى روايات الأديب الراحل يوسف السباعى ، تبينتها أنا من بعيد رواية "
لا أنام " ، وقد إستغرقت فى القراءة ، وأخذت تطوى الصفحات طياً ، وبدا عليها
الإصرار على إتمام قراءتها ، حتى إنتهت منها .
وفجأة . .
أغلقت الكتاب ، بعد أن فرغت من القراءة ، وإمتدت يدها ، لتضعها على المنضدة أمامها
، ورفعت عينيها نحو السماء ، وظلت شاردة الذهن ، وهائمة فى الخيال ، حتى إنتبهت
بعد لحظات ، على صوت جرس هاتفها المحمول ، إلتقطته بسرعة ، وتحدثت إلى شخص ما
هاتفها . . وبعد دقائق قليلة ، أنهت المكالمة ، وأعادت هاتفها إلى حقيبتها ،
وإستعدت لمغادرة المكان . . نظرت من حولها يميناً ويساراً ، فوقعت عيناها علىّ ،
وما أن نظرت إليها ، حتى نهضت نحوى ، وهى تبتسم وتلقى علىّ التحية ، فرددتها ،
وإستأذنت للجلوس معى وكأنها تعرفنى ، فأذنت لها . . وما أن جلست حتى بادرتنى
بالحديث قائلة :
قالت ( وهى
تبتسم ) : لقد أسعدنى الحظ أن قابلتك أيها الأستاذ الأديب ، صاحب القصص والحوارات
.
قلت ( وأنا
أرد مبتسماً ) : وأنا أيضاً أسعدنى لقاءكً ، ما دمتِ تعرفيننى .
قالت :
أعرفك جيداً ، ولكنك لا تعرفنى . . فأنا إمرأة من كثيرات من النساء ، يقرأن لك
قصصك وحواراتك ، وبعض من مقالاتك فى السياسة . . عجيب أمرك هذا .
قلت ( مندهشاً ) : وما العجب فى أمرى ؟
قالت : كونك
أديب ، فتلك نعرفها . . إنك تكتب فى الأدب محراب الخيال فتفتننا بقصصك وحواراتك ،
وروائع تحليلاتك فى الحب والغرام ، وفى قلوب العذارى والنساء . . ثم نراك وكأنك
تقلب الصفحات ، فتكتب فى السياسة وعالمها الخداع ، وواقعها البعيد كل البعد عن
الأحلام ، إنها عالم المآسى والأوجاع ، من ظلم وقهر وغش وكذب وخداع ، فتأسر عقولنا
بتحليلاتك وتنبؤاتك ، وتأخذنا إلى الواقع المؤلم المرير ، وكأننا نتنقل معك فى
بساتين الإبداع . . ألا يثير ذلك العجب العجاب ؟ أم أنك يا عزيزى ممن لهم أكثر من
وجه ، ويرتدون القناع ؟
قلت ( وقد
أثار كلامها حفيظتى ) : عزيزتى . . أصحاب الأقلام ينابيع الإبداع ، وقد خلق الله
منا من وهبهم القدرة على الإبداع فى أكثر من مجال ، وأحمد الله على تلك النعمة
النعماء .
قالت : أهو
حقاً حمداً لله عن رضا ؟ أم أنه تواضع المبدعين والأدباء ؟
قلت : هما
الإثنان معاً . . كى لا ندخل سوياً فى جدال ؟
قالت : أنا
أهوى القراءة ، و خاصة القصص والروايات ، وقرأت للعديد من الأدباء ، وآخر ما قرأت
رواية " لا أنام " للأديب القصاص يوسف السباعى ، عملاق الرواية
الرومانسية .
قلت : إنها
رواية رائعة ، قرأتها عدة مرات ، وشاهدتها فيلماً سينمائياً جميلاً ، لسيدة الشاشة
العربية فاتن حمامة ، منذ أكثر من أربعين عاماً .
قالت (
وهى تتساءل ) : ما لأدباء وقصاصى العصر الحديث ، لا يتحدثون فى رواياتهم ، إلا عن
النساء ، وكأن العالم قد خلا من الرجال .
قلت : ومن
قال لكِ ذلك ؟ هناك العديد من القصص والروايات ، أبطالها من الرجال ، ألم تقرأى
رواية " رجل فى بيتى " ، ورواية " أغلى من حياتى " ورواية
" بداية ونهاية " ورواية " الحب الخالد " . . أليست كلها
روايات أبطالها من الرجال ؟
قالت :
ليتنى ما سألتك . . لقد أقنعتنى بسهولة ، فأعذر جهلى .
قلت (
مبتسماً ) : لا بأس . . لا عليكِ .
قالت : لى
عندك رجاء . . ما دمت فى حضرتك ، وأنت من الأدباء ، ولك العديد من القصص والحوارات
. . إذن حدثنى قليلاً عن الرجال ، فأنت منهم ، وأدرى بحالهم .
قلت : وعن
أى أمر من أمور الرجال ، تريدين منى الحديث ؟ فالرجال كالنساء ، لديهم من الخصال
والصفات الكثير والكثير . إخبرينى عما تريدين .
قالت : لن
أثقل عليك سيدى . . حدثنى فقط عن قلوب الرجال ، وهل تختلف عن قلوب النساء ؟
قلت : إن
كنت ِ تقصدين مشاعر الرجال وعواطفهم ، فإن الرجال أقل حظاً من النساء فى هذا الشأن
. . فالمرأة يا عزيزتى ، بطبيعتها ، كائن عطوف وحنون ، وأكثر رقة وعذوبة من الرجال
. . هكذا خلقها الله سبحانه جل فى علاه ، وهكذا أرادها ، كى تكتمل لها القدرة على
فعل ما أمرها الله به ، من رعاية الأسرة ، وتربية الأولاد . . . أما الرجال ، فمن
طبائعهن القوة والمنعة ، والصلابة والشدة ، فى أغلب المواقف والأوقات ، من أجل
صلاح أمور الحياة . . ومن أجل ذلك – عزيزتى – كان الرجل أقل عطفاً وحناناً ، ورقة
وعذوبة من المرأة .
قالت :
أتقصد أن تقول أن الرجال قساة القلوب عكس النساء ؟
قلت : لا .
. يا عزيزتى . . ما قصدته ، أن الرجل كالمرأة فى الخلق تماماً بتمام ، فكلاهما
إنسان ، وقد أودع الله فيهما ذات الصفات ، ولكن بقدر يختلف بينهما ، حسب مهام كل
منهما فى الحياة . . ألم تقرأى قول الله تعالى فى كتابه العزيز : " وخلق كل
شئ ، فقدره تقديراً " صدق الله العظيم
قالت : وهل
يحزن الرجال كما تحزن النساء ؟ أم أن طبيعة الرجال تحول دون ذلك ؟
قلت :
إنهم - بلا شك – يحزنون ، مثلهم مثل
النساء . . أليسوا بشراً كما النساء ؟ أليس لهم قلوب وأفئدة كما النساء ؟ ولكن
الرجال الأقوياء يكرهون أن تبدو أحزانهم ، أمام أعين الناس .
قالت ( وهى
تسأل بإهتمام ) : وهل يبكى الرجال ، كما نبكى نحن النساء ؟
قلت (
مؤكداً ) : نعم . . إنهم يبكون حين الفراق ، وتنساب دموعهم من شدة الحزن والألم .
. ألم تقرأى قول رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام حين مات ولده إبراهيم ،
فحمد الله وقال : " إن القلب ليحزن ، وإن العين لتدمع ، وإنا على فراقك يا
إبراهيم لمحزونون " صدق رسول الله ؟ ألم يبك رسول الله على ولده حين مات ،
ألم تدمع عيناه من ألم الفراق ؟
قالت : وهل
الموت وحده ، الذى يُبكى الرجال ، ويُدمع العيون ، فتتساقط العبرات ؟
قلت ( نافياً ) : لا . . فكل فراق يهتز له إنسان ،
يبكى من أجله الرجال .
قالت : حتى
فراق الحبيب بالرحيل والبعاد ؟
قلت : فراق
الحبيب ؟ أه ثم آه ثم آه من فراق الحبيب . . يا عزيزتى . . على قدرالحب
وقدر الحبيب ، يأتى ألم الفراق الأليم . .
والرجل حين يحب بكل كيانه وجوارحه ، ويعيش فى محراب الحب ليل نهار ، وصباح مساء ،
وكل وقت وأوان ، فإنه يصير أسير ذلك الحب ، ولا يطيق للحبيب بعاداً . . وحين يقع
الفراق ، يدمى قلبه ، ويؤلمه أشد الإيلام ، ولا تكفيه حينذاك ، دموع كل البشر ، ولا العبرات . . فأنا – يا
عزيزتى – أعرف من الرجال ، من ذاقوا مرارة فراق الحبيب ، وحسرة البعاد ، وظلوا
رهائن سجون الألم والحزن أعوام وأعوام ، فلا الدموع أنقذتهم مما هم فيه ، ولا
البكاء أفاد . . ذهب عنهم أحباؤهم ورحلوا ، بعد أن كانوا ساكنى القلوب ، وشاغلى
العقول ، ورفقاء الأرواح والنفوس . . ذهبوا وتركوهم يعانون ألم البعاد ، كما يعانى
من مات له عزيز ألم الخسران . . ففيما إذن يا عزيزتى ، يختلف الرجال عن النساء ، حين
الآلم والأحزان ؟
قالت ( وقد
بدا عليها التأثر ) : أرانى عرفت الآن سر نهاياتك الحزينة ، فى القصص والحوارات .
قلت ( وأنا
أخفى تأثرى ) : إنها نهايات من وحى الخيال ، يا عزيزتى .
قالت ( وهى
واثقة ) : قل ما شئت ، وإدعى ما شئت ، أيها الأديب القصاص . . ها هى دموع عينيك
أراها فى مآقيها ، وها هى قد فضحت ما تحاول إخفاءه . قلت : ألسنا جميعاً بشر ؟ نحب ونكره ؟
ونفرح ونحزن ؟ ونسعد ونتألم ؟ ونضحك ونبكى ؟
قالت : بلى
. . جميعنا بشر ، ولم يخلقنا الله من حجر . . ولولا إشفاقى عليك ، ما غادرتك قط .
ونهضت
واقفة . . وإستدارت لتمضى بعيداً عنى . . وهى تنظر إلىّ وتقول : " ما لحظى
التعس ، إنى أحيا مع رجل ، ليس كباقى الرجال ، إنه لا يبكى أبداً ، ولم أرى دموعه
تنساب فى أحلك اللحظات " .
حينها . .
أدركت أنا ، كم أنى محظوظ ، أن وهبنى الله القدرة على البكاء حين الألم ، فلسنا
معشر الرجال إلا بشر ، ولم يخلقنا الله سبحانه من حجر .
وإلى مقال آخر إن شاء الله .
دائما مبدع بالفعل ان الم الفراق له اشد الالم وبكاء الرجال لهو اكبر دليل على الحب وشده التاثر والحس المرهف -ابدعت واجدت ولك منى كل التحيه
ردحذف